كُتّاب الموقع
الإستونيّون.. المُجتمع الرقميّ الاكثر تطوّراً في العالَم

نديم منصوري

الأربعاء 14 آب 2019

قرَّرت الجمهوريّة الإستونيّة، إحدى دول البلطيق الواقعة في الركن الشماليّ الشرقيّ من أوروبا، منذ انفصالها عن الاتّحاد السوفياتيّ في العام 1991، اتّخاذ الخطوات العمليّة التي تقودها نحو التحوّل الرقميّ، وعملت على إلغاء جميع الإجراءات المُعتمَدة سابقاً في الحقبة السوفياتيّة والبدء من مرحلة الصفر.

أطلقت الحكومة الإستونيّة في العام 1997، مُبادرة "أي إستونيا e-estonia"، لبلوغ الدولة الرقميّة، واستطاعت أن تحقِّق هذا الهدف لتكون إستونيا اليوم، المجتمع الرقميّ الأكثر تطوّراً في العالَم.

منذ البدء، أدركت إستونيا أنّها دولة صغيرة، عدد سكّانها لا يزيد على 1.3 مليون نسمة، ولا تتوافر فيها مَوارد طبيعيّة وفيرة أو سوقٌ داخليّ ضخم. من هذا المنطلق، رأت أنّ تطوّرها لا يُمكن أن يتمّ من خلال الاعتماد على المفاهيم الاقتصاديّة التقليديّة، بل في الاعتماد على التكنولوجيا الرقميّة كفرصة حقيقيّة في تحقيق التغيير لمجتمعها. وبالفعل أصبحت إستونيا بفضل فَهمها للواقع الاقتصادي الجديد، ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالَمي، أكثر البلدان رياديّة في أوروبا.

استطاعت إستونيا أن تحقِّق مجتمعها الرقمي من خلال الاعتماد على مبدأ الشراكة ما بين: حكومة تمتلك استراتيجيّة واضحة وذات رؤية مستقبليّة، وقطاع خاصّ مختصّ بتكنولوجيا المعلومات، ومواطنين مُبدعين في التكنولوجيا.

شكَّلت هذه الشراكة القوّة في تجاوُز التحدّيات المُواجِهة لها، ولاسيّما أنّها تجربة تبدأ من الصفر ولا تستند إلى أيّ تجربة سابقة. لقد بدأت الحكومة بتقديم الخدمات الرقميّة بطريقة لم تكُن مُتاحة من قبل، ومع قبولها التحدّي، تمكَّنت أن تحسِّن الحياة اليوميّة للمواطنين بشكل متميّز. يظهر هذا التميّز في عرض المؤشّرات الآتية:

 


- التوفير والفعاليّة

يتمّ توفير ما لا يقلّ عن 2 % من الناتج المحلّي الإجمالي GDP للدولة بسبب الاستخدام الجماعي للتوقيعات الرقميّة خلال المُعاملات الرقميّة
يتمّ توفير 800 سنة من وقت العمل سنويّاً بفضل تبادُل البيانات
تمّ تقليل الوقت اللّازم لتأسيس عمل تجاري من 5 أيّام عمل إلى 18 دقيقة.


- المؤشّرات الماليّة

يتمّ إنشاء 98% من الشركات عبر الإنترنت
يستغرق الوقت لإنشاء شركة عبر الإنترنت 18 دقيقة فقط
99% من المُعاملات المصرفيّة تتمّ عبر الإنترنت
يتمّ إيداع 95% من الكشوفات الضريبيّة عبر الإنترنت، تستغرق 3 دقائق فقط!


- مؤشّرات الحكومة الإلكترونيّة

98% من الإستونيّين يحملون بطاقة هويّة وطنيّة رقميّة
أكثر من 25.000 شخص تقدّموا بطلبٍ للحصول على الإقامة الإلكترونيّة
أكثر من 30% من الناخبين الإستونيّين في 116 دولة يستخدمون التصويت الإلكتروني في الانتخابات الإستونيّة.


- الرعاية الصحيّة

97 % من المرضى لديهم سجلّات رقميّة يُمكن الوصول إليها في جميع أنحاء البلاد
97% من الوصفات الطبيّة هي رقميّة
500.000 استفسار من قبل الأطبّاء و300.000 استفسار من قبل المرضى في كلّ عام.


- بيانات X-Road كمنصّة لتبادُل البيانات

99% من الخدمات العامّة تتمّ عبر الإنترنت مع خدمة 24 ساعة على مدار أيّام الأسبوع
يتمّ من خلال المنصّة 500 مليون استفسار كلّ عام
ليس هناك من توقّف في النظام منذ العام 2001.


- السلامة العامّة

أصبح عمل الشرطة أكثر فاعليّة بنسبة 50 مرّة بفضل حلول تكنولوجيا المعلومات
نظام الشرطة الإلكترونيّة متوافر في سيّارات الشرطة الذي يضمّ أكثر من 15 قاعدة بيانات، بما في ذلك قواعد شنغن Schengen والإنتربول.
- الأمن السيبراني

تُعدّ Shields Locked، أكبر تمرين دولي للدفاع عبر الإنترنت في مجال مُكافحة الجرائم الإلكترونيّة، كما وصفها مركز الامتياز التعاوني للدفاع السيبراني التابع لمنظّمة حلف شمال الأطلسي CCDCOE، الذي يتمّ تنظيمه منذ العام 2010 في تالين، عاصمة إستونيا.
بدأت الحكومة الإستونيّة اعتماد تقنيّة KSIBlockchain لحماية سلامة البيانات المُخزَّنة في المستودعات الحكوميّة منذ العام 2008، وهي تقنيّة مُصمَّمة في إستونيا وباتت متوافرة في أكثر من 180 دولة في العالَم.


تستضيف إستونيا مركز التميُّز التّابع لمنظّمة حلف شمال الأطلسي للتعاون الدفاعي NATO والوكالة الأوروبيّة لتكنولوجيا المعلومات.


التعليم: تحتلّ المرتبة الأولى في أوروبا في اختبار PISA (برنامج دولي لتقييم الطلّاب) الذي تنظّمه منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD.
85% من المدارس الإستونيّة تعتمد نِظام المدرسة الإلكترونيّة.


كيف أستطاعت أن تحقِّق هذا النجاح؟

عندما بدأت إستونيا في بناء مجتمعها الرقمي، لم يكُن هناك قاعدة بيانات رقميّة قد جُمِّعت عن مواطنيها. لم يكُن النفاذ إلى الإنترنت متوافراً لجميع السكّان، ولم يكُن كلّ السكّان يستخدمون الأجهزة الرقميّة أصلاً. تطلَّب الأمر شجاعة من الحكومة للاستثمار في حقول تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات واعتماد مسار التكنولولجيا الرقميّة في عمليّة التحوّل. نستعرض بعض الحلول الرقميّة التي اعتمدتها إستونيا لتكون أكثر المجتمعات الرقميّة تطوّراً في العالَم.

مبادئ الحَوكمة الرقميّة في إستونيا

1- اللّامركزيّة: لا تتوافر قاعدة بيانات مركزيّة تُتيح لكلّ صاحب مصلحة، سواء أكان إدارة حكوميّة أم وزارة أم صاحب نشاط تجاري... اختيار نظامه الخاصّ

2- التوصيل البَيني: جميع عناصر النّظام تتبادَل البيانات بأمان وتعمل معاً بسلاسة

3- النزاهة: بفضل تقنيّة KSIblockchain، فإنّ جميع عمليّات تبادُل البيانات والاتّصالات تتمّ بشكلٍ مستقلّ ومفتوح وآمن، مع الخضوع إلى المُساءلة عند الحاجة

4- المنصّة المفتوحة: يجوز لأيّ مُستخدِم الاستفادة من البنية التحتيّة المتوافرة التي تعمل كمَصدر مفتوح

5- المرونة: القوانين المُرتبطة بالمجتمع الرقمي مَرنة قابلة للتعديل والتطوير

6- الدقّة: يتمّ جمْع البيانات مرّة واحدة فقط من قبل المؤسّسة، ما يلغي البيانات المكرّرة والبيروقراطيّة

7- الشفافيّة: للمواطنين الحقّ في الاطّلاع على معلوماتهم الشخصيّة والتحقّق من كيفيّة استخدامها من قبل الحكومة عبر ملفّات السجلّ.

لقد اعتمدَ نجاح التجربة الإستونيّة على مُواطِن مُنفتح الذهن، متحمّس لاستخدام الحلول الإلكترونيّة، وعلى بنية تحتيّة قويّة جعلت من المُمكن بناء نظامٍ بيئيّ للخدمات الإلكترونيّة آمن وسهل الاستخدام. واستطاعت أن تبني ثقة واسعة في مجتمعها الرقمي ومستوى غير مسبوق من الشفافيّة في الإدارة.

على الرّغم من النجاح المتميّز الذي حقّقته التجربة الإستونيّة في عمليّة التحوّل الرقمي في وقتٍ قياسي نسبيّاً، اعتبرت الدولة أنّ رحلتها الرقميّة لم تنتهِ. وعليه، تعمل باستمرار على خوض التجارب الجديدة مع الحرص على الاستفادة من الأخطاء الماضية.

ترى الجمهوريّة الإستونيّة أنّ الخطوة البديهيّة المستقبليّة تكمن في نقل خدماتها الأساسيّة إلى وضع رقمي بالكامل يوفِّر للمواطنين الخدمات الرقميّة التلقائيّة على مدار الساعة وطوال أيّام الأسبوع. ونعرض جزءاً من طموحات إستونيا المستقبليّة، والتي بدأت في خوض غمارها:

دولة رقميّة جديدة

مَنحت الإقامة الرقميّة e-Residency للمواطنين فرصة الانتماء إلى دولة رقميّة عالَميّة. حيث لم يعُد مكان العمل أو الإقامة عائقاً أمام روّاد الأعمال لمُتابعة أعمالهم، يتوقّف الأمر على الإمكانات التي سيوفّرها لهم الاقتصاد العالَمي وفي دمقرطة التجارة الإلكترونيّة وجذْب روّاد الأعمال. وترى إستونيا أنّ الدول ستتنافس في المستقبل على جودة خدماتها الرقميّة العامّة لجذْب المُقيمين الإلكترونيّين.

سفارة البيانات

يُقصد بسفارة البيانات أنّ الدولة تمتلك مَوارِد الخادِم خارج حدودها الإقليميّة. هذا مفهوم مُبتكر للتعاون مع معلومات الدولة؛ إلّا أنّ جميع مَوارد بيانات السفارات خاضعة لسيطرة الدولة الإستونيّة، ومحميَّة ضدّ أي هجوم إلكتروني من خلال استخدام تقنيّة KSIblockchain، وهي قادرة على توفير نسخ احتياطيّة، وعلى تشغيل أكثر الخدمات أهميّة.

تقنيّة Blockchain

بدأت إستونيا باختبار تقنيّة blockchain منذ العام 2008، ووضعتها قيد الاستخدام الفعليّ منذ العام 2012 في سجلّاتها، مثل أنظمة الرموز الوطنيّة للصحّة والقضاء والتشريع والأمن والتجارة. هناك خطط لتوسيع استخدامها لتشمل مجالات أخرى، مثل الطبّ الشخصي والأمن السيبراني وسفارات البيانات.

تبادُل البيانات عبر الحدود

كلّما أصبحت الشركات والمُواطنين أكثر قدرة على الحركة والتنقّل، تصبح الحاجة إلى خدمات إلكترونيّة دوليّة أكثر إلحاحاً. بدأت إستونيا هذا العمل مع مرفق لتبادُل بيانات القطاع العامّ، تمّ تأسيسه بين فنلندا وإستونيا في العام 2017. وتأمل إستونيا أن يتوسّع هذا المرفق ليطاول جميع الدول الأوروبيّة بوقت قريب.

النقل الذكي

تُعَدّ إستونيا رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات من خلال بطاقات الهويّة الإلكترونيّة، والتصويت الإلكتروني، والإقامة الإلكترونيّة. في العام 2017، اتّخذت الحكومة الإستونيّة خطوة مهمّة جديدة، عندما سمحت قانونيّاً باعتماد المركّبات ذاتيّة القيادة على جميع الطرق الوطنيّة والمحليّة، على اعتبار أنّ هذه التقنيّة ستُساعد على تحسين السلامة على الطرق. وبالتالي تستمرّ إستونيا في جعل نفسها منصّة حديثة للابتكار والتكنولوجيات الجديدة، كونه يتوفر لديها بالفعل جميع المتطلّبات والقدرة في بلوغ ذلك.

التقرير 3.0

تعمل الحكومة الإستونيّة على إعداد التقرير 3.0 بهدف التقليل من الأعباء على رجال الأعمال خلال تقديمهم البيانات الإلزاميّة إلى مؤسّسات الدولة. سيتمّ الانتهاء من بوّابة جديدة للضرائب الإلكترونيّة والجمارك في العام 2020، حيث سيكون تبادُل المعلومات بين الشركات والجهات الضريبيّة تلقائيّاً ويتطلَّب منح الوصول إلى البيانات فقط. سيوفِّر الإعداد لهذا التقرير الكثير من الوقت والمال، ما يسمح للشركات بالتركيز على النموّ والإنتاجيّة.

التحوّل الرقميّ في التعليم

تؤمن الحكومة الإستونيّة أنّ تربية مجتمع ذكي هو أذكى استثمار تقوم به الدولة. لذا هي تعمل دائماً على تطوير المهارات الرقميّة للأمّة بأكملها. مثال: بحلول العام 2020، ستتمّ رقمنة جميع الموادّ الدراسيّة في المدارس الإستونيّة وإتاحتها من خلال حقيبة مدرسيّة إلكترونيّة.

الصناعة 4.0

تهدف الحكومة الإستونيّة إلى تفعيل الصناعة وتقديم الحلول التكنولوجيّة المفيدة لتطوير جودة التصنيع. وتسعى من خلال قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات على تطوير حلول الصناعة 4.0 من خلال اعتماد مفهوم Time Factory Real، وكما يوحي الاسم، يسمح لمديري المصانع بتتبّع مؤشّرات الأداء الرئيسة في الوقت الفعلي، ما يجعلهم يتّخذون القرارات المناسبة في عمليّات تحسين الجودة، والعمل كنظامٍ متكامل واحد.

نستخلص ممّا تقدَّم أنّه متى توافرت الرؤيةُ الحكوميّة، وتعاونُ مُختلف القطاعات، وثقةُ المواطنين بدولتهم، يستطيع أيّ شعب تحقيق هدفه.

قمتُ مؤخَّراً بزيارة الجمهوريّة الإستونيّة، وجلتُ في العديد من مؤسّساتها، ولاسيّما المرافق الحكوميّة من مقرّ الحكومة ومجلس النوّاب ووزارة الدفاع وجامعة تالين للتكنولوجيا والأكاديميّة الرقميّة. إلّا أنّ أكثر ما لفتني هو فرحة هذا الشعب وزهوه بأنّه بلد صغير بقدرته "الرقميّة" جعل من نفسه رقماً متميّزاً على خريطة العالَم.


 

 

 

 

*أستاذ عِلم الاجتماع في الجامعة اللّبنانيّة


المصدر: مؤسسة الفكر العربي