كُتّاب الموقع
تركيا، والإسلام، وآسيا الوسطى: الأنشطة والنتائج

نيل هوير

الجمعة 6 أيلول 2019

على الرغمِ من القواسم المشتركة بين تركيا والدول الخمس السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، من حيث وشائج الدين والتراث التركي (مع تنحية طاجكستان جانبًا)، فإن مستوى التقارب لم يكن أبدًا على المستوى المتوقع. لكن أنقرة لا تزال تحاول لعب دورٍ في المنطقة بدأته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وهذا الدور تضمن الاعتماد على العنصر الديني بصورة مكثفة. وفي السنوات الأخيرة، كانت لتركيا تفاعلات من نوع آخر مع مواطني آسيا الوسطى: فقد سافر ما يصل إلى 4000 مواطن من سكان المنطقة إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم داعش، وعبر العديد منهم تركيا للوصول إلى هناك. وفي ضوء ذلك، فمن المفيد دراسة الدور الذي لعبته الدولة التركية والمنظمات غير الحكومية التابعة لها في آسيا الوسطى، خاصة في المجال الديني، وفيما يتعلق بجهود مكافحة التطرف.

بعد استقلال تلك الدول في عام 1991، كان لدى تركيا في البداية خططٌ كبرى بشأن آسيا الوسطى، حيث تعتبر المنطقة مجالًا طبيعيًا لنفوذها السياسي بسبب الروابط اللغوية والثقافية. غير أن هذا التفاؤل سرعان ما أفسح المجالَ لمزيد من المخاوف العملية، حيث كانت الدولُ المستقلة حديثًا أكثر اهتمامًا بإثبات هوياتها الخاصة عن تشكيل مظلة إخوة تركية جامعة، مما دفع أنقرة إلى اختيار التركيز بدلًا من ذلك على دعم الأنظمة القائمة هناك، رغبة في الحفاظ على الاستقرار. وقد ظهرت بعضُ المبادرات التركية مجددًا في العقد الماضي، وربما كان أبرزها إنشاء المجلس التركي في عام 2009، ولكن أثر تلك المبادرات كان ضئيلًا.

ومع ذلك، حدث الكثير من التفاعل في المجال الديني. وبَنَت تركيا سياساتها في ترسيخ نفوذها من مدخل الدين في آسيا الوسطى من خلال وسيلتين منفصلتين، وإن كانتا متكاملتين بشكل عام. الأولى هي مديرية الشؤون الدينية في أنقرة، والثانية من خلال المنظمات غير الحكومية.

لقد توسعت أنشطة مديرية الشؤون الدينية، التي أُنشئت بعد فترة وجيزة من تأسيس الجمهورية التركية. فبعدما كانت مقتصرة في السابق على المجال المحلي فقط، توسعت إلى ما وراء حدود تركيا في العقود الثلاثة الماضية. وفي حين أن دورها كان شديد الوضوح في الخارج القريب، أي بلاد الشام (خاصة سوريا)، فقد قامت أيضًا بمبادرات لتعزيز دور الإسلام في آسيا الوسطى في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بدءًا بمساعدة رجال الدين المحليين والوطنيين في جميع الجمهوريات الخمس. وقد عقد المجلس الإسلامي الأوراسي، الذي يُعد أكثر مشروعاتها طموحًا، أول قمة له في عام 1995، لكن المجلس لم يجتمع منذ عام 2012. ورغم الطموحات الكبيرة، يبدو أن نشاط المجلس قد خبُتَ، حيث طردت أوزبكستان وتركمانستان الملحقين الدينيين الأتراك في عامي 2002 و2011، على التوالي.

وفي الوقتِ نفسه، تم التواصل عبر عدد من الجهات الدينية التركية غير الحكومية، التي وصفها العالم التركي بيرم بالسي في كتابه الصادر عام 2018 «الإسلام في آسيا الوسطى والقوقاز منذ سقوط الاتحاد السوفييتي». وكان من بين أكثر هذه المنظمات نشاطًا المنظمة التي أسسها سليمان تونهان (1888- 1959)، شيخ صوفي ينتمي للطريقة النقشبندية، حيث أسست جماعته عددًا كبيرًا من المدارس الدينية الصغيرة في كل من قيرغيزستان (لا سيما مدينتا أوش وجلال أباد الجنوبيتان المضطربتان) وكازاخستان. وكانت هناك مجموعة أخرى، تتبع تعاليم العالم الكردي سعيد نوركو، تنشط أيضًا في أربعة من الجمهوريات الخمس المذكورة في آسيا الوسطى (باستثناء أوزبكستان). وأخيرًا، حققت منظمة رجل الدين فتح الله جولن أيضًا نجاحًا كبيرًا في معظم دول آسيا الوسطى.

كانت حركة “حزمت” التابعة لجولن، وهي الأكثر نشاطًا بين المنظمات الدينية التركية في آسيا الوسطى، تقدم فرصًا تعليمية وخدمات مجتمعية على نطاق واسع. واختلفت الحركة عن غيرها كونها كانت تتصرف باعتبارها ذراعًا للدولة التركية، وذلك حتى عام 2013. وفي تلك المرحلة، انفصلت هذه المنظمة الدينية غير الحكومية وهي الأكثر نفوذًا عن حكومة رجب طيب أردوغان، وشهدت تراجعًا كبيرًا في دورها في الفضاء السوفييتي السابق.

وفي إطار حملة تطهير أتباع جولن من المؤسسات في الداخل، طلبت أنقرة من دول آسيا الوسطى إغلاق المدارس التابعة لجولن. وقد امتثلت واحدة من تلك الدول، على الأقل امتثالًا كاملًا (طاجيكستان)، في حين لا تزال كازاخستان وقيرغيزستان تستضيفان مؤسسات جولن. ويمكن القول إن المدارس الجولونية، نسبة إلى جولن، لم تعد أدواتٍ سياسية للحكومة التركية، بأي شكل من الأشكال.

كان هدف تركيا في هذين الاتجاهين -من خلال مديرية الشؤون الدينية والمنظمات غير الحكومية- تصدير نسخة مقبولة ومعتدلة إلى حد كبير من الإسلام إلى جمهوريات آسيا الوسطى، في ظل عدم رغبة تلك الدول في قبول أي مبادرات قومية تركية فيما بينها. ومع صعود حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه أردوغان، إلى السلطة في عام 2002، أصبح هذا الهدف متشابكًا بشكل متنامٍ مع فكرة الدفع بنسخة أكثر تحفظًا من الإسلام كدعامة لسياسة الحكومة، أو على الأقل كمنصة يمكن للحكومة التركية أن تستمد الدعم من خلالها. ونظرت عواصم آسيا الوسطى لهذا الهدف بصورة مختلفة كثيرًا. إذ سرعان ما أصبحت معظم الحكومات الإقليمية مرتابة من التدين العلني لقيادة حزب العدالة والتنمية، ومن المنظمات الإسلامية التي اعتبرتها عميلة له، أي لحزب العدالة والتنمية. فسارعت أوزبكستان إلى طرد ممثلي مديرية الشؤون الدينية القلائل الذين قبلتهم، في حين قيدت تركمانستان أنشطتهم بشكل متزايد قبل طردهم في عام 2011.

لم تحتل طاجيكستان، وهي ليست ضمن تجمع الشعوب التركية، مكانة بارزة في نشاط تركيا في المنطقة، في حين قام نور سلطان نزارباييف، زعيم كازاخستان السابق، بتضييق المساحة المتاحة لأنشطة مديرية الشؤون الدينية والمنظمات الجولونية. ولم تستمر الحركات الدينية المدعومة من تركيا في ممارسة نفوذ كبير إلا في قيرغيزستان، التي كانت تقليديًا واحدة من أضعف الحكومات المركزية في المنطقة، وبالتالي أكثر استعدادًا لقبول النفوذ الخارجي (فضلًا عن ضعف قدرتها على مقاومة مثل هذا النفوذ).

والسؤال إذا: هل لعب النشاط الإسلامي التركي أي دور في موجة التطرف التي اجتاحت المنطقة في الفترة 2012-2017، مع وصول الصراعين السوري والعراقي والجماعات الإسلامية المتطرفة فيهما (بما في ذلك تنظيم داعش) إلى ذروتيهما؟

ربما بالفعل حدث ذلك. فمن الثابت وجود نشاط ديني تركي في آسيا الوسطى، تركز إلى حد كبير في جنوب قيرغيزستان، وهي ذات المناطق (أوش وجلال أباد) التي أنتجت غالبية المقاتلين الأجانب في الدولة. البعض يرى أن هذا من قبيل الصدفة، وأن هناك أدلة قليلة تشير إلى أن هذه المبادرات المحلية، كان لها تأثير كبير على الاتجاهات المتطرفة. لكن الدراسات الأكاديمية الحالية، التي تتحدث بتفصيل وبشكل متنامٍ عن جنوب قيرغيزستان، لا تنفي هذه الفرضية أو تؤيدها. والمرجح أن تركيا كانت بمنزلة المنفذ للشباب في المناطق النائية الفقيرة مثل أوش، للهجرة والحصول على فرصة عمل خارج البلاد، وقد يعد هذا تأثيرًا ظرفيًا، وليس مباشرًا.

وختامًا، كان النفوذُ الديني لتركيا في آسيا الوسطى خليطًا متباينًا، ولكن ليس نفوذًا ذا تداعيات مباشرة بطريقةٍ أو بأخرى. فالدولةُ التركية والجهات الفاعلة من غير الدول تنشط في المنطقة، وعلى نطاقٍ يسمح بتأثير لتعزيز المصالح التركية في آسيا الوسطى. علاوة على ذلك، يبدو أن المنظمات الإسلامية التركية لم تلعب دورًا يُذكر في منع التطرف أو تمكينه، على الأقل بقدر ما تتيح لنا المعلومات المتوفرة. وربما تصبح تركيا في المستقبل لاعبًا أكثر حسمًا في آسيا الوسطى. أما في الوقت الراهن، فهي بالتأكيد لا تزال لاعبًا من الدرجة الثانية.



المصدر: كيوبوست