كُتّاب الموقع
المارونية الحضارية في وجه المارونية السياسية

منصور عازار

الأربعاء 28 آب 2019

المارونية هي انبثاق حضاري من اصول سريانية وثيقة الاتصال بالنهج الارامي ذلك النهج الرامي الى تحرير المسيحية من رواسب اليهودية التي علقت في تقاليد بعض المسيحيين المتوارثة .


ومنذ نشوئها في خارج لبنان حتى امتدادها الى هذه الجبال وما اليها من سواحل وسهول لم تكن طائفة دينية وحسب بل كانت حركة وتمدن متتطورة كونها كانت مصدر تراث حضاري وينبوع فكر معطاء في حقول الفلسفة والادب الموسيقى والفن والعمران ومختلف القيم الانسانية الراقية .


لم تكن المارونية في تاريخها الطويل فقط جماعة اعتدال بل كانت تيارا راقيا يرفض الفتوح الغريبة ويناضل على اسس حرية فكرية واضحة ما اتسمت يوما بالغموض ، ولا بالانكماش ولا بالخوف .


والى جانب نهجها الروحي والفكري هذا كانت نواة خير وعمران وانتاج مادي وروحي (مدرحي) ، فصروحها الشامخة على الروابي المنتشرة في المنحدرات والسفوح لم تكن اديارا بقدر ما كانت خلايا نشاط ومدارس وحصون واقطاب تجمع حولها الموارنة وبنوا في ظلها القرى وراحوا يجعلون الصخور حقولا وكروما وبساتين تفيض بالبركات وتزخر بالمواسم السخية والمتنوعة .


انها اغنت هذه الجبال وملأت سكانها ثقة بالنفس كما اغنت سواها ، وكانت مثالا في الصبر والصمود وتقديس العمل ومتابعة النضال مما جعلها اكبر بكثير من ان تنحصر في رابطة او جمعية ومن ان تتقوقع في وظيفة او مجموعة وظائف ومن ان تدور على محور محدود من الشخصيات السياسية والدينية مهما علا شأنهم .


انها تخطت تخوم الجنسيات فاصبحت حركة عالمية ، انها عطاء كالحرف ، كالشراع كالفكر المعبر عن الحق والصراع والعدالة ، كالجمال قولا وكتابة ونقشا وغناء وتصويرا ونحتا .


اذا كانت اكثرية الموارنة من اللبنانيين ؟ فليست المارونية لبنانية لانها بتراثها الحضاري كونية كمختلف الحركات البناءة في تاريخ الانسانية واذا كانت للموارنة امتيازات معينة في " الدولة اللبنانية " فلا يعني ان هذه الدولة هي نطاق المارونية وقالبها الوحيد وقوقعتها العازلة . كثيرون من الموارنة يعتبرون مارونيتهم بلا حدود ولا قيود ، والوطن اللبناني نفسه ـ وهو مركزها الافضل ـ يجب ان يكون منطلقا لنشاطها في محيطها والعالم لا برجا عاجيا ومرقدا للعنزة تنحصر فيه الى ما شاء الله .


لم تكن المارونية انطاكية فحسب يوم اطلقت من ضفاف العاصي الى هذه الجبال ولا هي اليوم لبنانية وحسب بعد استقرارها السياسي الطويل في لبنان ، فمجرد "انطلاق" عطائها يجعله عالميا ومحررا من كل ضيق ومفهوم محلي محدود .
هذه هي المارونية التي نؤمن بها ، اما المارونيات الاخرى التي جعلها بعضهم منصة الى المناصب او معراج تصعيد الى الوجاهة او وسيلة سهلة للمكاسب ... فليست منا ولسنا منها .


المارونية ليست طائفة بقدر ما هي نهج حضاري ، وتيار فكري ، وخط انساني يتجاوز الطقوس والاعتبارات السياسية والاقليمية .


ان للمارونية معنى اوسع بكثير واعمق بكثير واعمق بكثير من المعنى الطائفي الضيق الذي يحاول حصرها فيه بعض الدارسين والمعلقين . ان لها وجها انسانيا ومفهوما حضاريا يتجاوزان تخوم الجنسيات ، وحدود الكيانات السياسية ، لانها اثبتت منذ نشوئها ، وعبر مراحل استمرارها ، انها حركة حياة متطورة ، تحمل في تطورها المتصاعد " مبلغا مرموقا " من التراث ، ورصيدا محترما من القيم .


مسيحيتنا تيار حافل بكنوز الفكر والمعرفة ، والشعور النبيل والتنشئة المثالية ، سار بالعقيدة في بقعة انطاكية ! والرها ! والقدس ! ووادي العاصي واودية لبنان وشوامخه ، ثم اطلقها وانطلق بها الى رحاب العالم .


هكذا نرى مارونيتنا كمسيحيتنا ، هكذا نحسها في قرارات النفوس وفي اعماق الوجدان ، وهكذا هي تفاعل حضاري عالمي ، شامل ، يجمع ولا يفرق يحب ولا يحقد ، واولى ميزاته العطاء .


دور المارونية هذا استمر بالبطاركة الستة والسبعين ، واذا كان التفاوت قد حصل في تأديته ، واذا كان تألقه قد خبا في عصور الظلم والطغيان فان جوهره لن يتبدل لانه لبابه واللباب لا يعتريه فساد . ان عظمة انطاكيتنا المارونية وقيمة رسالتها في انها سبقت ولم تسبق ، اعطت ولم تأخذ ، فيها تمركز الايمان ثم انطلق تيارا حضاريا انسانيا محببا الى الغرب .


ولا اخشى القول ، في نطاق الايمان والرسالة السماوية ن اننا نحن الاصل وان روما هي الفرع ، فاللمسيحية في ارضنا كما للمارونية جذور عميقة ، اصيلة ، من واجبنا ان نأخذها بعين الاعتبار . بل نرفع حسناتها واضحة ، متجلية على الاخص لانها افرخت ، واثمرت ، ولا تزال تثمر على ارفع المستويات الفكرية والحضارية .


ليس من شك في ان المارونية هي ظاهرة حياتية ، تتصل بجذور حضارتنا الاصيلة ، وهي عدا كونها ظاهرة حضارية فانها تحوي قدرا كبيرا من التصوف والتدين ، كما انها ملتزمة كليا بالمنطقة التي نشأت فيها وهذا الالتزام كان مدار صراع عبر الاجيال في وجه الذين حاولوا تسخير او تزوير هذه الشخصية الحضارية الفذة .


لئن افسحت سلطة البابا الروحية في المجال لتدخل اوروبا زمن ضعفنا وانحطاطنا هادفة الى الغاء هذه الشخصية الحضارية الاصيلة ، فان ردود فعل كثيرة بدرت من الموارنة في مختلف المراحل ، هدفها التصدي لتيار " اللبننة" ولكل منحى يرمي الى ازالة هذه الشخصية الروحية والخلقية المتصلة بجذور حضارتنا وعمقها الانساني اللامحدود .


من هنا ، فالمارونية جزء لا يتجزأ من السريانية وليست المارونية هي الاصل والسريانية هي الفرع بل بالعكس ، السريانية هي الاصل ، والمارونية هي الفرع هي الظاهرة ، واعني بالظاهرة انهما ظاهرة حياة وليس مضمون حياة ، ذلك ان المضمون الحياتي للمارونية هو مضمون حضاري اصيل يتصل بكل حضارة المنطقة المشرقية .


وعندما اضطرت المارونية الى ترك سهولها ووديانها في المنطقة الشمالية من سورية ، اثر احتدام الخلافات اللاهوتية بينها وبين الفرق المسيحية الاخرى المدعومة من السلطات البيزنطية ، اضطرت بالضرورة نفسها ، الى نقل المرافق الثقافية من فكر وحضارة وفن وموسيقى الخ ... الى مناطق اعتبرتها اسلم من المنطقة التي كانت تحيا فيها حينذاك ، وكذلك بدأت العائلات تنقسم وعلى سبيل المثال فالاب الذي له خمسة اولاد يرسل اثنين منهم الى جبال لبنان لكي يؤسسوا البيت "والعائلة" فيطلقوا اسم المنطقة التي جاؤوا منها على المنطقة التي حلوا فيها فتسمية بكفيا وبيت شباب وبيت مري وبحرصاف وغيرها كانت عبارة عن قرى ومزارع اسسها الموارنة في منطقة نشأتهم سورية ، من هنا اجتزئت العائلات وبدأت بتكوين فروع لها بغية السلامة والحفاظ على الوجود الحضاري المتميز ...


اذا النشأة في جبال لبنان ، كانت نشأة حضارية بسائر مرافقها الفكرية والثقافية والموسيقية ... مضافا اليها التطور العمراني ، والذي تجلى في بناء "الاديرة" حيث تدل هذه الاديرة بدورها على تفكير راق جدا لجهة التصميمات الهندسية داخل الدير وخارجه !...

 


من هو الدير ؟


الدير هو حضارة ارامية سريانية ، تضرب بجذورها عميقا في ارضنا وتاريخنا تمتد الى ما قبل المسيحية باصولها الفكرية والدينية مع التزامها ـ اي المارونية ـ بحضارة المنطقة التي نبتت وعاشت فيها ... الدير هو المكان الذي تمارس فيه الحياة من حيث كونها عبادة وصناعة وزراعة وكتابة وفاعلية ، اي متطلبات الحياة الرئيسة ، ومن الوجهة الهندسية يمثل الدير فلسفة تتركز على ادق بقعة للدفاع استراتيجيا وهو من الداخل عبارة عن ساحة كبيرة تنتهي بكنيسة لممارسة العبادة ... وفي طابقه الاول تنتشر مصانع الخياطة والحدادة والنجارة والسكافة ومعاصر الدبس والزيتون وصولا الى سائر الحرف .


يلي ذلك مدرسة ، ومن ثم الحقل الواسع الذي يحيط بالدير ... من هنا تمظهرت الحياة المادية ـ الروحية ، وهذا ما يقودني الى الحديث عن الثنائية التي تعني في اساسها التعبير عن الطبيعتين اي التعبير عن المادة والروح وبكلمة (المدرحية) ولا يخفى ان هذا التعبير تمثل وتمظهر في الدير ، من حيث ان الراهب ذاته يزرع ويحصد ويقطف ... زائدا ممارسته اليومية للحياة الروحية ...


وعليه يمكن القول ان معاصر الزيت ومعاصر الدبس وتربية المواشي ، كذلك نربية دود الحرير انما تمثل مادية الحياة او حاجات الحياة المادية في الطعام والشراب انها الطبيعة البشرية للفلسفة المسيحية الانسانية في جانبها المادي ... الاجتهاد العمل والنشاط في الحقول وفي التصنيع ... يعقب ذلك الانتقال الى شأن الروح والعبادة من صلوات وشعائر دينية ... هذا الدمج الرائع " الذي كان" يجري بين الحياة المادية المنتجة وبين الالتزام بالاخلاق الروحية هو ما اعطى للمارونية بنوع خاص استمرارية حضارية اصيلة في المنطقة نتمنى ان تدوم !...


من الجائز القول اذا ان الذين حاولوا ان يجعلوا من المارونية شأنا دخيلا على بلادنا او مصطنعا او مغربا انما ليسيئون اليها فحسب ... ولا يخفى ان اجيالا عديدة اساءت ولم تزل الى هذا المفهوم العميق ، مفهوم الاستمرارية الحضارية .


وفي العودة الى الاصول نقول ان بكركي تساوى في اصولنا الحقيقية والسحيقة في القدم "روما" بكل ما في هذا المفهوم من معنى وعمق ، من هنا تصعب التنازلات على المستوى الديني والفكري الى روما وغيرها فلا ضير في القول ان الفلسفات الدينية برمتها وجدت في منطقتنا مع رموزها فحري بهؤلاء الغربيين ان يأخذوا العلم منا لا العكس ؟...


وتأكيدا ينبغي القول كجيل مسؤول ان كل من يريد اخراج المارونية من منطقة نشأتها وامتدادها الطبيعي انما هو يعمل ضد التاريخ وضد الحقيقة ... وكل من يريد ان يجعل من المارونية في المنطقة سياسة انعزال وضعف واستسلام ، انما يضر بطبيعة نشأتها ، ذلك ان المارونية نشأت حركة صراع مع الارض ، ومع الطبيعة ، ومع السماء ... اذا جاز القول : لقد قاتلت الارض فاستنبتت فيها العمران والحضارة ، وقارعت السماء بافكار لاهوتييها اثباتا لعقيدة التجسد وبتضحيات ابرارها انتزاعا للاعتراف بحق قداستهم .


وهكذا يظهر بوضوح ان المارونية شأن حضاري انساني لا شأن سياسي ـ عائلي كياني ، وبهذا الصدد لا ينبغي ان يغيب عن الذهن جذور واصول يصعب التخلي عنها ، مع الحرص الدائم على امتدادات تلك الجذور وهاتيك الاصول عميقا في الارض والتاريخ !...



المصدر: نشر في العدد 6 كانون الأول 2005