كُتّاب الموقع
نحو عالم أفضل

منصور عازار

الإثنين 26 آب 2019

هاهي أن سنة تدخل التاريخ وأخرى تقف على أعتابه . . ولعل ماشهدته السنة الماضية من أحداث تشبه زلزالا هائلاً لم يستفق منه البشر من وهلته بعد ..


فالتغيرات الحاصلة في شرق أوروبا تدعو الإنسان إلى أن يعيد النظر في كل ماعرف وتعلم واختبر خلال حياته الماضية إذ من كان ينتظر سقوط النظام الماركسي في هذه السرعة , وعودة هذه الشعوب إلى التفتيش عن هويتها وجذورها من جديد ؟! .


وبعد هذا الحدث الخطير , كيف تتجه القوى المعنية في التعامل مع هذه المتغيرات التاريخية والجذرية ؟ .


إن سؤالاً كهذا , للإجابة عليه , يجب أن نعود إلى حقيقة النظرة الماركسية, وتحليل قواعدها وفلسفتها ومراحل تطبيقها على الإنسان الروسي أولاً والإنسان اجمالا في كل أوطان العالم وأممه !.


العقيدة الماركسية منذ تكوينها , في دماغ واضعها , اعتمدت فقط على تحديد الإنسان أنه طاقة مادية – جسدية , يجب تأمين حاجاتها البيولوجية اولاً , وأن هذا الإنسان هو أخو الإنسان حيث وجد ,وأن مشكلة الإنسانية هي واحدة في الكون, وناجمة عن صراع العامل مع رب العمل , عن قتال طبقي بين طبقة محرومة مسحوقة هي الأكثرية الساحقة للجنس البشري , وطبقة حاكمة هي القلة في يدها وسائل الانتاج صناعة وغلالا .. ومن هنا كانت الصرخة الماركسية التي عمت الكون : ياعمال العالم اتحدوا .


وخلال سبعين عاما من القتال الطبقي والصراع الفكري والعقائدي لم تتمكن هذه النظرة إلى الحياة والكون من أن تصالح الإنسان مع نفسه ,إذ أنها اعتمدت في أساسها على تحديد خاطئ للإنسان والإنسانية ..


وقد أثبت التجارب الحياتية أن الانتماء الإنسانيإلى طبقة منتشرة في العالم , وإن تشابهت أحوالها , ليس هو الأنتماء الحقيقي المعبر عن الحياة في عمقها القومي وشمولها الحياتي , وإن صراع الطبقات في المجتمع الواحد ماهو إلا قتل لهذا المجتمع الواحد ماهو ألا قتل لهذا المجتمع في تفتيت قواه وهدرها بدون طائل , وأن الإنسان الذي يؤمن الدخل كونه خاضعاً لإله الدولة لم يحل مشكلة توزيع الثروة في المجتمع الواحد , فظل الإنسان عبدا للأجهزة الحاكمة , حتى أذا انهارت , كما هو الحال الآن في روسيا السوفياتية , وإذ أصبحت واحة للفقروالمجاعة والفوضى والاقتتال الداخلي الهدام .


ولأن الفكر الماركسي هدفه فقط أشباع " معدة الإنسان " فقد أهمل النواحي الاخرى في هذا الإنسان , أهمل فكره وكرامته وثقافته وحضارته وعزة نفسه , أهمل الروح المحيي النابع من داخله , خيرا وجمالاً وتوقا إلى الافضل والأحسن .


لذا كان هذا الانهيار الحاصل  كشفا صحيحا للفشل الذريع التي وصلت إليه هذه الشعوب , والتي أخضعت لما هو مناقض لحقيقتها وحقها في الحياة طوال سبعين عاما , ولقد انتصر فكر الإنسان الحقيقي – " الإنسان والمجتمع " على الإنسان الوهمي الطبقي " الإنسان الفرد " نتيجة لهذا الإخضاع التعسفي والمستبد , وبهذا تجد العقول المهتمة بمصلحة الإنسانية العليا نفسها أمام حالة جديدة , يجب عليها بحثها والتدقيق في نتائجها للوصول إلى أعطاء هذه الإنسانية النظرة الصحيحة التي تؤمن بحقيقة نموها وانتصارها على عوامل الهدم والانهيار والانحلال التي أدت إليها النظرة الخاطئة وقد دوخت العالم سبعين عاما وحرمته من الاستقرار الحقيقي المنشود .


وإذا كانت الماركسية قد لعبت هذا الدور الخطير في تفتيت الشعوب التي نزلت فيها وفيما أحدثته عالميا من تشنجات في جسم الإنسانية جمعاء, فإن نظيرتها في الخراب , وهي الرأسمالية التي لم تؤد هي أيضاً , إلا إلى  التعاسة والشقاءفتحكمت بضع مؤسسات في عملية الانتاج , وسيطرت قوى مريضة متحجرة في إنسانيتها على موارد الكون , أهمها الطاقة , وبدأت تحارب الماركسية في سبيل القضاء عليها مدعية إنها وحدها, تحوي في عمقها الفكري الحرية والديمقراطية .. فكانت هذه الخدعة الناتجة عن سحر هذه الألفاظ قوية لدرجة أن غالبية الشعوب العالم اليوم قد صدقتها فعلا , فإذا الاستعمار والسيطرة على خيرات الشعوب يدعي حرية العصر , والهيمنة الكاملة على مؤسسات الفاعلة , في هذا الكون التي اعتمدت التكنولوجيا الحديثة وسائل لها لأداء أدوارها تسمى الديمقراطية . . وماتقسيم العالم إلى شعوب من عالم ثالث , وشعوب من عالم أول إلا نتيجة هذه الديمقراطية المزيفة الفاشلة والمخادعة , وهنا يكمن شر الصراع الخفي بين نظامين بربريين تجاه الإنسانية : نظام الطبقات الماركسي الهدام , والنظام الرأسمالي بشقها الصهيوني , الذي ورث بقايا اليهود في العالم ليغذي بهم مجتمع " اسرائيل " المريض والاصطناعي من جهة , وليسيطر على الأسواق المحلية الفارغة من كل إنتاج وعطاء ,والتي بدأت تشحذ لقمة العيش من سيد الكون الجديد والأوحد من جهة ثانية .


إذ إن المتغيرات في هذه الجهة من العالم , ليست لصالح الشعوب التي تحررت من الماركسية , وليست لصالح مايسمونه الحرية والديمقراطية ,لأن انهيار الماركسية سيؤدي بهذه الشعوب التعيسة إلى عبودية خانقة , تخضع فيها لنظريات اللأستهلاك وحضارة الكاكولا , والهاهمبرغر  والخ ..


إذ ليست هذه التغيرات عودة إلى مناخ الحرية والنظام الرأسمالي بقدر ماهي سقطة في خدعة هائلة وكذبة تاريخية خطيرة تروج لها وسائل الاعلام في هذا العالم !! وماالإنسانية إلا ضحية لهذا الصراع الذي يستعبدها بنتائجه الخانقة والمدمرة في آن !! .
 

لقد آن الأوان لمخاطبة هذا الكون بلغة الحقيقة , ودلّه على مكامن الخطر التي تحملها هذه النظرات الناقصة والخاطئة , والتي استعبدت عقل الإنسان وإرادته طوال قرون سحيقة في القدم .


وإذا كانت الأديان والمذاهب قد حاولت إيجاد العقائد المطمئنة للإنسان , فإن دورها في الحقيقة , قد انتهى دون أن تصل إلى المطلوب والمقصود , إذ أنها أعطت للإنسان تفسيرا عقائديا أوقعه  في انفصام خطير فإذا به معلقاً بين الأرض والسماء ينشد السعادة الأبدية أو في جنة تجري من تحتها الأنهار ، ويغرق في أحوال هذه الدنيا، فلا ربحها ولا ربح الآخرة وأصبح خلال ممارسته شعائره وكأنه  صنم يتحرك بفعل الأوهام والمخاوف وترداد الأقوال التي أبعدته كلياً عن ممارسة معانيها ومقاصدها فأصبح مجرد صدى يتكرر بلا فائدة ولا معنى.


إذاً كانت هذه حال الانسانية التي أوصلتها إليها تعاليم الماضي، البعيد والقريب، فما هو الحل إذاً لإنقاذ هذا الكون قبل أن يضع حداً لوجوده.


فالانسانية تتقدم بخطوات سريعة إلى الفناء والاندثار، وما يمكن فعله هو أن يعي هذا الانسان حقيقته، فيعمل لإعادة التوازن والاستقرار إلى وجوده من خلال فهم طبيعة هذا الوجود ويؤسس حياته الجديدة على هذا الفهم الصحيح لتكوينه. ذلك إن الانسان ليس فرداً فحسب بل هو مجتمع، إمكانية اجتماعية هامة، لذا يمكن التأكيد على أن الوجود الانساني هو وجود مجتمعي، والانسان - المجتمع هو العقيدة الكلية الشاملة لمعنى الحياة ف مجتمع معين، ولا وجود كاملاً متكاملاً خارج المجتمع..


فالفرد هو إمكانية اجتماعية لا تصبح فاعلة ومنتجة إلا ضمن المجتمع، ومن خلال المجتمع المعين والمحدد، إذا ان الانسانية ليست مجتمعاً واحداً، بل مجتمعات متنوعة المصالح والمثل العليا ومتميزة بشخصية  كل منها عن الأخرى تميزاً واضحاً وجلياً إن في التكوين،  وإن في الأداء والتعبير، وإن في درجة الحضارة والثقافة.


وليس العالم بالضرورة، عالم حرب فتاكة تتنازع من خلالها موارد الكون، لأنه  إذا انتظمت حياة المجتمعات  كل على فهم حقيقته وحقه في الحياة وانتفى من داخلها صراع الطبقات والنزاع على الموارد، واتجهت في داخله إلى توزيع الانتاج على مبداً القومية من جهة، وانتظمت العلاقة بين هذه المجتمعات على أساس فهم كل مجتمع لما هو عليه من خصائص وتمايز، من جهة ثانية، واحترمت شعوب الأرض ما هو لها، فحافظت عليه واقتسم كل شعب موارده لسداد حاجاته المتنوعة فيصبح توزيع الثروة في المجتمع الواحد، توزيع غنى لا توزيع فقر، فتعم عندئذٍ روح العدالة والأخوة بين أبناء المجتمع الواحدويتوقف النزاع على لقمة العيش، وسيطرة طبقة على طبقة وانسان فرد على  إنسان فرد..


كما سبق يتمكن الانسان من السيطرة على نوازعه الداخلية وعلى شهواته الغرائزية، ويصبح متكافئاً مع نفسه، ويتغير كلياً هذا الانسان اتجاه ابن مجتمعه، وتجاه أبناء المجتمعات الأخرى، ويصبح بإمكان الانسانية السيطرة على قوة العلم والاختراع، فتسخر لحاجاتها الراقية في تحسين الحياة ودفعها إلى عالم أفضل بدلاً من أن تحوله إلى آلة فتاكة لمحو الأحياء والحياة برمتها..


هذه النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن تنقذ الوجود الانساني، كما تنقل الحياة من اليأس إلى الأمل، ومن الهدم إلى البناء، ومن التضارب المفرق للقوى إلى التفاعل الموحد لها.. وعندئذٍ فقط، يمكن الانتقال من حالة الرعب التي تعيش عليها الانسانية اليوم إلى حالة الاستقرار  والطمأنينة التي تنتظرها غداً.


هذا إذا أدركت معنى ما يطرحه هذا الفكر  الجديد الذي من دونه سيضمحل الكون، ويقع فريسة الانفصام بين ما هو مادي فحسب وبين ما هو روحي فيخسر الاثنان معاً الأرض والسماء.


إنها نظرة تحتاج إلى الكثير من التعمق والتوضيح وليست هذه الدراسة المختصرة إلا منطلقات لتحرك العقول والنفوس، من أصحاب الإيمان والاختصاص والوجدان للاهتمام الجدي بموضوع طال انتظار الاهتمام به بما يستحق من جدية وجرأة.
 






*نُشر المقال - في مجلة تحولات - العدد / 4/ تشرين الأول 2005