كُتّاب الموقع
لبنان... عَرجٌ اقتصاديّ وكِساح سياسيّ

حسن شامي

الإثنين 26 آب 2019

حفلت الأشهر القليلة الماضية بالحديث الصاخب عن خطرِ انهيارٍ ماليّ واقتصاديّ يُهدِّد لبنان. لم يقصّر أحدٌ في الخوض المسهب في هذا الحديث، وفي مقدّمهم كِبار المسؤولين في الدولة، من رأسها وأركان الحكومة والنوّاب وكِبار الموظّفين. وزاد في الشعر أبياتاً ما طرحه المحلّلون الماليّون والسياسيّون من سيناريوات الخطر الدّاهم، بما في ذلك الكلام على "يونان ثانية" تنتظر المصير اللّبناني. وكان من الطبيعي أن يدور مثل هذا الحديث في الأوساط الشعبيّة، مشيعاً أجواء القلق واليأس.

من غير ما حاجة إلى الدخول في تفاصيل الأرقام المُعلَنة، وقد باتت مُتاحة للجميع، ما من مؤشّر على الأداء المالي للدولة والنشاط الاقتصادي، إلّا ويشي بحجم أزمة تكاد تكون شاملة. ومهما كان مستوى إلمام المُتابع للوضع اللّبناني بعِلم المال والاقتصاد، سيكون سهلاً عليه فهْم المعاني المُقلقة للأرقام التي يجري توصيف الأزمة بها، وسيجد أنّ الأرقام المُقلقة تلك تُظهر صورة بلد يعيش فوق قدرته الماليّة، وفي ما يشبه الانتحار المالي... وللعِلم، لبنان يملك من الإمكانات ما يجعل اقتصاده يقف ويمشي بقدمَين ثابتتَين، مُنتجاً جاذباً للاستثمارات والكفاءات ومولِّداً لفُرص العمل، لكنّ السياسات المتّبعة هي التي تجعل الاقتصاد "يعرج" وتكاد تحوِّل الماليّة العامّة إلى "مُقعَدة". وبالتالي، أيّ نقاش للأزمة ينحصر في لغة الأرقام، يبقى ناقصاً، ما لم يتتبّع الأسباب الحقيقيّة لهذه الأزمة، وهي تكمن في السياسة، وبالأحرى اللّاسياسة في لبنان.

الصادم في الأمر هو أنّ المسؤولين، وقد صارت موضوعة الانهيار محطّ كلام عند كثيرين منهم، جهدوا في تعداد عوارض المرض ومضاعفاته، من غير أن يحدِّدوا طبيعة المرض نفسه. تجاهلوا، جميعهم تقريباً، عامدين، الاعتراف بالمُسبّبات وتاريخيّتها، وبالغوا في تقديم الأزمة على أنّها قَدَر نزل فجأة بالبلد وأهله، وأنّ المرض لا علّة له أو سبب لكأنّه حمّى ابنة ساعتها... هذا والأزمة تكاد تكون مُزمنة، وهي في الواقع، نِتاج تراكُم سياسات وأسلوب إدارة دأبت على اتّباعها الحكومات المُتعاقبة، التي تكوَّنت، في أغلبيّتها، من القوى السياسيّة التي ما زالت تتولّى الحُكم وتتمثّل في المجلس النيابي، منذ ما يزيد على عقدَين من السنين، في حين أنّ "المُستجدّ" منهم لا ينهج نهجاً مُختلفاً إلّا بالكلام.

سياسة اللّاسياسة

كيف تكون السياسة المتّبعة "لاسياسة"؟

لعلّ الجواب الأبسط هو أنّ السياسة تكون على هذه الشاكلة عندما لا تقوم على استيعاب دروس الماضي وفهْم متطلّبات الحاضر ورؤية ما يجب فعله للمستقبل. السياسة، بمفهومها العامّ، هي شأن يخصّ المجتمع ويؤثّر فيه. فالتعليم والإعلام والاجتماع والقانون والحرب والسلام والاقتصاد أمور تخصّ الناس جميعاً وتتأثّر مباشرة بقرارات الحكومة ومُمارستها، وكلّ مَن يهتمّ بمُناقشة هذه الجوانب وينشغل بها، عليه، شاء أم أبى، أن يتعامل مع السياسة باعتبارها كلّ الإجراءات والطُّرق المؤدّية لاتّخاذ قرارات من أجل المجموعات والمجتمعات البشريّة... وكان أرسطو اعتبر أنّه إذا كانت السياسة هي الأداة المطلوب امتلاكها بحصافة وحِكمة، فإنّه في غياب السياسة بهذا المعنى، يصبح الأقلّ ذكاء هُم الذين يتحكّمون في أمور الناس ومقدّرات البلدان التي يحكمون... فما الذي يحصل في ظلّ سياسة أهل الحُكم في لبنان؟

الحكومة التي تضمّ وزراء من كلّ الأطراف المتمثّلة في المجلس النيابي، هي الموالاة والمُعارَضة في آن. وهذه بدعة في النُّظم البرلمانيّة، تجعل من مجلس الوزراء ساحة صراع بين مكوّناته قبل أن يكون مَوقعاً لصنع القرارات، التي لا يُتّخذ المهمّ منها إلّا بتوافقٍ يسبقه تناحر يهدر الكثير من الوقت.

الحكومة بهذا النسيج، هي التي تسعى اليوم لتدارُك الخسائر، وتبشِّر ببوادر الحلول تحت عنوان الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة. لكنّ أهل الحُكم ما كان لهم أن يُجمعوا على الاعتراف بحجم الأزمة، إلّا لأنّه لم يعُد بإمكانهم الاستمرار في إدارة الشأنَين المالي والاقتصادي على المنوال الذي ساد طوال السنوات الماضية. وورشة الإصلاح ما كان لها أن تبدأ، لو لم يكُن هناك دافع مباشر، هو مؤتمر الدول مانحة المساعدات للبنان (سيدر)، الذي فَرض شروطاً صارمة لصرف هذه المساعدات، تؤكِّد ضرورة السير بالتوازي بين تطبيق المشروعات والإصلاحات والتمويل الدولي. وقد بات معلوماً أنّ الجهات المانِحة ستُراقب عن كثب، ومن دون هوادة، مسار الالتزام بموجبات صرف الأموال المرصودة (نحو 11 مليار دولار، جزء منها على شكل قروض).

التوافق القسريّ على الاعتراف الجماعي بالأزمة، جرت ترجمته بما تيسَّر: موازنة يجري ترتيبها "تقنيّاً" بما يؤدّي إلى خفض العجز فيها إلى ما دون الـ 10% من مجموعها، وهو ما قد حصل إذ تمّ وضع موازنة عجزها في حدود 8%... وفي المحصّلة بدا أنّ الطرف الأقوى في مُعادلة اجتراح الحلول التقشفيّة هو الائتلاف الحاكِم، الذي "يفصّل ويقصّ"، وهو آمِنٌ من غياب المُعارَضة وضعف الحركة النقابيّة، وانحياز الإعلام، أو عدم كفاءته في لعب دَوره التنويري بشأن مسبّبات الأزمة وكشْف المسؤولين عنها.

حديث الموازنة

في الظاهر، تبدو موازنة 2019 وكأنّها الوعاء الذي يجري داخله تعريب مؤتمر سيدر، وترجمته إلى سياسة ماليّة جديدة للدولة اللّبنانيّة. وهذا ما يجب أن يكون. فالموازنة في أيّ دولة هي التي ترسم مَسار الخطوط العريضة للسياسات العامّة بشكلٍ شامل، وليس السياسة الماليّة حصراً، لأنّها تعبّر عن برنامج العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للحكومة خلال الفترة الماليّة المُقبلة. وهي الأداة الرئيسة لتحقيق الأهداف السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي يُمكن التعرُّف إلى مدى قدرة الدولة على تحقيقها من خلال تحليل أرقام الإيرادات العامّة والنفقات العامّة التي تفصّلها وثيقة الموازنة العامّة.

مثل هذا المفهوم الشامل للموازنة العامّة، لا نراه في إعداد موازنة الدولة اللّبنانيّة اليوم، التي تبدو في مجملها وكأنّها تنفيذ عملي لأحد دروس التدبير المنزلي، في عصر النفقات والاقتصاد في المصاريف العامّة، والاستغناء عن نفقات أقلّ ضرورة... إلخ. والأنكى أنّ هذا المسعى "التقني" في سبل "عصر" المُوازنة أَبرزَ نهجَين مُتصادمَين داخل أهل الحكم، أحدهما يدعو إلى أن يشمل التقشّف في الإنفاق رواتب الوظائف العامّة ومخصّصاتها، والثاني يحرِّض على البنوك التي يرى أنّ عليها أن تموِّل العجز. ومثل هذا الخلاف كان طبيعيّاً أن يطفو على السطح، لأنّ مَن يتولّون أمر السعي لإعداد الموازنة، يهمّهم أن تخرج بالّتي هي أحسن، وبما يلبّي أحد شروط "سيدر" الرئيسة.

بهذا التوجُّه، يبقى الكلام على موازنة تعني رسم الخطوط العريضة للإصلاح المنشود، لا يتعدّى الظاهر والقشور، وهذا ما يكشف أنّ العقليّة الإصلاحيّة بعيدة عن مفهوم أهل الحكم الذين اضطرّوا إلى خوض معركة الإصلاح، بعد أن أُسقط بيدهم، حين لم يعُد بالإمكان مراكمة السياسات الخاطئة، في تسيير أمور الدولة ماليّاً واقتصاديّاً. سياسات جعلت الفساد يتعمّق، والدَّين العامّ يتعاظم، والإنفاق يتواصل من غير ما ضابط أو رقيب، في ظلّ تغييبٍ مقصود للموازنات التي أصبح من المعتاد أن يمرّ أوان وضعها وتنفيذها مرور الكرام، فبات تسيير أمور الدولة من دون موازنة "إنجازا" لبنانيّاً، على ما تفاخرَ ذات مرّة وزير الخارجيّة.

وبهذا المعنى، تظهر الإصلاحات، التي يجري الكلام عليها بصخب مبالغ فيه، تجميليّة أكثر من كونها تطاول الأُسس الواجب اعتمادها لمُعالجة الأخطاء، بل الخطايا المُتراكِمة، ولتحقيق النموّ المُرتجى، والتأسيس لاستقرارٍ مكين الدعائم. وبهذا المعنى يبدو واضحاً أنّ الحكومة لم تتجثّم عناء الإدراك أنّ الإصلاح الحقيقي، البنيوي، لا يُمكن إلّا أن يكون وليد سياسة متكاملة، تقوم على التبصّر والتخطيط للمستقبل، وأنّ كلّ "إصلاح" تجميلي ( وإعداد الموازنة العامّة عنوان) يبقى ردّ فعل استلحاقيّأ، إن لم يكُن فعل ندامة تأخَّر كثيراً.

مَكمن العلّة

قد يكون مناسباً تثمين الجهد الحكومي اليوم بالقول "أن تأتي متأخّراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً"، لو أنّ الذي يجري ليس إلّا نتيجة إدراك لدى أهل الحكم لواقع أنّه لم يعُد بالإمكان تحصين الصيغة التوافقيّة التي يحكمون البلاد من خلالها، من دون "هدنة" فرضَها واقعُ شبه استحالة مواصلة نهج الاستدانة لمُمارسة الهدر، الذي هو "الاسم المُعتمد" للفساد والسطو على المال العامّ بالقانون أحياناً... هدنة تكون فرصة لاتّقاء عواقب فلتان الأمور وسيادة الفوضى... هذا، مع العِلم أنّه ما من ضامن يضمن استمراراً طويلاً لهدنة تقوم بين أطراف لا يجمعهم غير الاتّفاق على "التوافقيّة" طريقة حُكمٍ يتحاصص أطرافه مفاتيح السلطة، ومقادير المال العامّ، وتدوس أعرافه على أبسط مفاهيم الديموقراطيّة، وتتنافى مع أصول المُمارسات البرلمانيّة، من معارضة وموالاة، في بلد ينصّ دستوره على أنّ نظامه برلماني.

ما يعزِّز هذا الأمر هو أنّ الحكومة الحاليّة، كما سابقاتها، لم تبدِ الحرص المطلوب على حماية مُمتلكات الدولة، وتحصيل ما تستحقّ من واردات. ثمّة مَوارد هائلة تضيع على الخزينة، من التهرّب الضريبي والسياسة الضريبيّة العرجاء، إلى التعدّي الصريح على الأملاك العامّة واستغلالها (بحماية خفيّة من المُتنفّذين) بجشع مُبالغ فيه، إلى التهريب عبر المَنافذ البريّة والبحريّة والجويّة، والتلاعُب بالرسوم الجمركيّة. وكلّ هذه المَوارد لو جرى ضبطها وتحصيلها لما كان ثمّة من عجزٍ في الموازنة.

لعلّ ما لا يجهله أحد أنّ الهدر الأكبر يتمّ على يد الأطراف المتحكّمة بمَفاصل الحُكم وشؤون الدولة، إذ يعزّزون مقدّرات سلطاتهم بما ينهبونه من المال العامّ. وثمّة معطيات كثيرة تعزِّز اتّهام هؤلاء بالحرص على استمرار أزمة الكهرباء التي تستنزف الخزينة بما يقارب المليارَي دولار سنويّاً.

مصدر الغنى غير المشروع هذا، إذ بات هو الشريان الأساس الذي يغذّي بقاءهم في السلطة، المرتبط عضويّاً بالإبقاء على التحاصصيّة، تحوَّل سبباً ولَّد أسباباً لما آلت إليه أحوال الدولة الماليّة من انهيار، ومحور خلاف وتناحر على الحصص التي يتوزّعها أهل السلطة من هذا المَصدر. والنهب أشكال، بعضه ما يتمثّل في توزيع الوظائف الفائضة عن حاجة القطاع العامّ على المحاسيب، والباقي، وهو معظمه، يتمّ إمّا مباشرة من خلال التزامهم، بواجهةٍ من رجال أعمال، المشروعاتِ والخدماتِ العامّةَ بأكثر من قيمتها، أو بما يتقاضونه من رشاوى- أتاوات لتمرير مشروعات والتزامات للمتموّلين، أو بطريقة غير مباشرة من خلال جمعيّات تكون منبعاً لجني المال بحجّة تولّيها نشاطات لا تقوم بها.

هكذا يصبح حديث أهل الحُكم عن الإصلاح مدعاة تساؤل عن مدى جديّته، ما دام الإصلاح والمُحاسَبة لا يشملانهم، بل إنّ أيّاً منهم ليس مستعدّاً للحدّ الأدنى من التضحية. وسقوط اقتراح تخفيض رواتب الوزراء والنوّاب ومخصّصاتهم أبلغ دليل... وبالتالي، يصبح من "الطبيعي" أن يرفض الإصلاحَ كلُّ متضرّر منه، بهذه النسبة أو تلك، وتتحوَّل المُحاسَبة إلى غير ما يجب أن تستهدفه.

أسوأ ما في الأمر أنّ الانقسام الحادّ بين أهل الحكم يجرّ نفسه على أسلوب التعاطي مع الأزمات، بحيث يعمد كلّ فريق إلى تحميل خصومه المسؤوليّة. ويخشى أن يشمل مثل هذا الانقسام سبل التعاطي مع تفاصيل "سيدر"، ما يعني أنّ "خشبة الخلاص" المُتاحة اليوم غير آمنة!.. والواقع يقول إنّ الجميع مسؤول. فمثلاً، كلّ الفرقاء الذين تناوبوا على الحُكم منذ نحو عشرين سنة إلى اليوم، استسهلوا اللّجوء إلى الاستدانة، التي ارتفعت معدّلاتها من مليار دولار سنويّاً إلى مليارَين ثمّ ثلاثة، وهي اليوم بحدود الخمسة مليارات. وبدل وقف الهدر ومُعالجة تداعياته، يجري رفع شعار مُكافحة الفساد فضفاضاً عائماً، لا يقارب مَكمن الفساد الحقيقي.

أمّا الفساد فحدِّث ولا حرج. وهو إذ تحوَّلت الدعوة إلى مُحاربته إلى أزمة تصاريح المسؤولين، يبقى في مأمن لأنّ الغطاء الطائفي والمذهبي جاهز لحماية الفاسدين والمُفسدين في الطائفة والمذهب.

وإذ يغيب عن سياسات الحكومات المُتعاقبة أيّ نظرة متكاملة إلى المستقبل، تشمل التخطيط لتحفيز النموّ وتشجيع الإنتاج ومُكافحة البطالة المستشرية، وخصوصاً بين الشباب وخرّيجي الجامعات، يصبح الإصلاح "التقني" عامل تأخيرٍ للمصيبة وليس إصلاحاً بنيويّاً وتصويباً للمَسار الحالي.

غياب النهج الإصلاحي عن إدراك الحكومات المُتعاقِبة، سببه انتهاجها سياسة "اللّا سياسة" والسبب أنّ الدولة في لبنان غير مكتملة الأركان التي تتّصف بها الدول الحديثة. وفي غياب مثل هذه الدولة، كانت الحكومات المُتعاقِبة تسيِّر الأمور بشكل أو بآخر وسط اطمئنان، لا سند له، بأن ليس من خطر كبير يلوح في الأفق، وهو اطمئنان مصدره ثقة كاذبة بجدوى الاستدانة، وغير ذلك من سياسات ماليّة واقتصاديّة واجتماعيّة، لا ينظِّمها برنامج صريح أو تسلك منهجاً عقلانيّاً في إدارة متطلّبات تحقيق النموّ وتحسين فُرص العمل.

المَخرج... سياسيّ بامتياز

عندما تكون السياسات المتّبعة أبعد ما تكون عن السياسة بمفهومها المذكور، تصبح الحاجة ملحّة إلى تغيير النهج المولِّد للأزمات، بنهجٍ سياسي آخر، إذ إنّه لا يستقيم إصلاحٌ مع بقاء الحكم بعيداً عن أن يكون تجسيداً لدولة القانون والمؤسّسات، واستمرار سيادة التحاصُص الطائفي، والولاء للزعيم، قاعدة لتقاسم الوظيفة العامّة والمناصب ونهْب مَوارد الدولة، حتّى في المشروعات التي تُتّخذ فيها قرارات "بالإجماع"!

لا شكّ في أنّ الضرورة تقتضي المباشرة من دون أيّ تأخير في تنفيذ الإصلاحات التي ارتهن بتنفيذها أمر مساعدة لبنان ماليّاً، وفق الأجندة الصريحة والواضحة التي اعتمدت في مؤتمر سيدر. الإصلاحات هذه تتطلّب قرارات "غير شعبيّة"، لكنّها ضروريّة ضرورة الجراحة لاستئصال الورم. ولن تكون مقبولة شعبيّاً ما لم يقدِّم أهل الحكم ما يُنبئ بتغييرٍ جوهري، إيجابي، في أسلوب إدارتهم للبلد، والشأن العامّ... المفتاح السياسي، يبقى الأهمّ. وهو الذي يتوقّف على إيجاده، وحسن استخدامه، نجاح الشقّ العملاني من الحلّ.

في السياسة أيضاً، سيكون على الحكومة أن تعمل لترسيخ عوامل الاستقرار في البلد. وهذا يتطلّب انتهاج سياسة حكيمة، متوازنة في العلاقات مع الخارج، مع تغليب التوجّه العربي، على ما عداه. ذلك أنّه قد ثبت وفي محطّات كثيرة أنّ الاحتضان العربي للبنان، الذي تُرجم غالباً بمساعدات سخيّة وضخّ أموال وفيرة في اقتصاد البلد، هو الضمانة العمليّة التي تجعل من الضمانات الدوليّة ذات فعاليّة إيجابيّة.

لا يُمكن التهرّب، بأيّ حال، من الاعتراف بأنّ لبنان يعيش في قلب الأزمة التي تعصف بمحيطه العربي. ولا يُمكن التوهُّم بأنّ لبنان لن يتأثّر بالعقوبات الأميركيّة على إيران وحزب الله، هذا واقع يفرض على أهل الحكم اعتماد سياسة ترى إلى مصلحة البلد كأولويّة بعيداً عن سياسة المحاور، ولا تقوم إلّا باستعادة الدولة كامل صلاحيّاتها، التي نصّ عليها الدستور ونظَّمتها القوانين.

سيبقى المَخرج من الأزمة بعيداً ما دام الكساح السياسي مستمرّاً. وستضيع الفرصة التي تسنح لاعتماد مُعالجات وحلول تنقل لبنان من دائرة العيش في بؤرة الأزمات. والفرصة تتمثّل بإمكانيّة الإفادة من "الصحوة الإصلاحيّة" والتزام القواعد، للانتقال من الحلول الآنيّة إلى ابتداع حلول دائمة، توفِّر فُرص التنمية من خلال العمل على بَرامج وخطط لزيادة الإنتاج وتوجيه المَوارد العامّة إلى الإنفاق الاستثماري، وتسهيل السُّبل أمام القطاع الخاصّ لبناء استثمارات جديّة.

لعلّ ما يساعد في ذلك أنّ لبنان، وعلى الرّغم من وقوعه في قلب الأحداث المتفجّرة من حوله، لا يزال يتمتّع باستقرارٍ أمنيّ، ويحظى بمظلّة دوليّة تحمي هذا الاستقرار. كما أنّ لبنان الذي ليس في مقدوره أن يكون مؤثّراً في تحديد التوازنات الدوليّة، يبقى عليه أن يكون حريصاً على اتّباع السياسات التي تتيح له الإفادة من هذه التوازانات، والسعي لضمان استمرار "المظلّة الدوليّة"، لكي تقيه الرياح التي تعصف من حوله.

عربيّاً، سيكون على الحكومة اعتماد سياسة واضحة في التعامل بإيجابيّة مع الدول العربيّة التي تسلك نهج الواقعيّة في سياساتها الخارجيّة، وتُواصل منذ سنوات مشروعات متكاملة للتنمية والتطوير داخليّاً، كالسعوديّة والإمارات والكويت. فهذه الدول كانت ولا تزال تشكِّل حاضنة لا غنى عنها للبنان. فلطالما كان الموقف العربيّ الذي تقوده السعوديّة يمثِّل تعزيزاً لحضورٍ هدفه بقاء لبنان في حاضنته العربيّة، التي تجد سنداً لها في حرص دول كبرى على استمرار الحاضنة الدوليّة لاستقرار لبنان... وفي المقابل، يحتاجُ لبنان إلى موقفٍ عربي دولي يجعل من احتضانِ لبنان قراراً استراتيجيّاً.



المصدر: مؤسسة الفكر العربي