كُتّاب الموقع
ما بعد الاستعماريّة... وأهميّتها في فهم الأسباب وراء الربيع العربي

حسام موصللي

الأربعاء 26 حزيران 2019

مع نهاية الحرب العالميّة الثانية، حدّد المنتصرون- دول الحُلفاء- مُعظم السياسات المعاصرة التي يعرفها عالمنا اليوم. وتلقائيّاً، كان لهذا الانتصار أثره البالغ على العلاقات الدوليّة كفرعٍ مستقلٍّ حديث من فروع المعرفة، فظلّ ما انبثق عنه من نظريات، ومفاهيم، ونتاج فكري سابحاً في أغلبه، في فلك العالم الأوروبي-الأميركي. في تلك الحقبة، هيمنَت الواقعيّة، والليبراليّة، والماركسيّة على العلاقات الدوليّة، وانصبّ الاهتمام بصورةٍ رئيسيّة على فكرة الدولة القوميّة باعتبارها المُكوِّن الأهمّ في عملية إنتاج المعرفة في العلاقات الدوليّة، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات بين القوى العظمى. ومع ذلك، فشِلَت المخاوف الواقعيّة بشأن "الاستقرار المُمَنهج" في تحقيق عددٍ من أهدافها، وظلّت ناقصةً لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار الدول غير الأوروبيّة، التي كانت قد حقّقت استقلالها حديثاً، إذا جاز القول، ولا تأثيرات قوّة الشعب التي لم يكن لها أي دور بارز في الرؤية المركزيّة الأوروبيّة للعالم (بيسواس، 2016؛ سيلفستر، 2017). ولعلّ أبرز الدلائل على هذا الفشل يكمُن في عدم قدرة النظريات المُهيمنة على التنبؤ بوقوع عددٍ من الأحداث الكبرى، التي يمكن القول بأنها غيّرت شكل العالم، على رأس هذه الأحداث: سقوط جدار برلين، ونهاية "الحرب الباردة"، وانهيار الاتحاد السوفياتي... إلخ.

كشفَ هذا الفشل المعرفي عن بعض الفجوات الخطيرة، وما وُجِدَ لاحقاً أن فرع العلاقات الدوليّة لم يُطوِّر ما يكفي من أدواتٍ، أو اهتمام حتى، لدراسة المُجتمعات غير الأوروبيّة التي اقتصرَ حضورها في المشهد، بوصفها جماعات غير منظّمة تقع تحت تصنيفاتٍ عُموميّةٍ مُبهَمة، وعادة ما يكون التعاطي معها باعتبارها من أجل "القتل أو الإنقاذ" (سيلفستر، 2017).

في الواقع، إذا كان ثمّة شيء وحيد مُشترك ما بين الدول غير الأوربيّة في هذا العالم، فهو حقيقة أنها في معظمها كانت مُستعمَرَة من قِبل إحدى الدول الأوروبيّة لفترات، امتدّت في بعض الأحيان لقرون. وبعد أن حقّقت معظم تلك الدول استقلالها، برزَت على السطح مجموعة جديدة من القواسم المشتركة فيما بينها: أوضاع في غاية السوء مِن فقر وغياب للتنمية وتدني جودة الحياة. بالرغم من أن استقلالها نفسه لايزال منقوصاً حتى اليوم، لأن العديد من الجماعات المحليّة ظلّت مُتأثرةً، بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، بالمستعمِرين السابقين، فضلاً عن أن أنظمة دول ما بعد الاستعمار لاتزال تعمل إلى حدّ كبير ضمن الأطر التي وَضعَها المستعمِرون أنفسهم. وعموماً، ترى الشعوب التي كانت مُستعمَرة أن تاريخ تلك الحقبة موصوم بالقمع، والاستغلال، والمعاناة، والنضال، والعنف، وغياب المساواة. وظلّ يُنظَر إلى العالم الثالث\ الجنوب العالمي، باعتباره مجموعة أخطار- أو تحالفات- هامشيّة في صراعات القوى العظمى. ولإدراك إلى أيّ درجة بلغ هذا التجاهل، يكفي أن نتخيّل باحثاً فيتنامياً يعمل في سبعينيات القرن المنصرم، على دراسة تتناول ما يُعرف بـ "الحرب الباردة"!

وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لأعمال فرانز فانون في تطوّر التحليل ما بعد الاستعماري، ثمة انقسام بين الباحثين فيما إذا كان كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، أو دراسات التابع في الهند، حجر الأساس لِما بعد الاستعماريّة في العلاقات الدوليّة. ولعلّ أبرز ما تشترك به الأعمال السابقة- وكذلك أعمال روّاد آخرين هُنا، على غرار هومي بابا وغاياتري سبيفاك، أنها عَكسَت الاتجاه التقليدي للمعرفة- إذ كان من الأعلى إلى الأسفل- بنيّة إضفاء صورةٍ أكثر شمولاً، وتقديم فهمٍ أكثر منطقيّةً لعالمنا المعاصر. لكنها، بخلاف ما بعد البنيويّة مثلاً، لا تقتصر فقط على فهم الأدوات والآليّات الخاصّة بالقوّة، التي أدّت إلى خلق تصنيفات مُختلفة في الواقع الاجتماعي، وإنما تهدف إلى "تحقيق المساواة، وتحسين ظروف الحياة، وصياغة سرديّات بديلة، وتَخيُّل إمكانيات أكثر ديموقراطيّة، وإنتاج حركات التضامن والتغيير" (بيسواس، 2016). ومن وجهة نظري، تتقاطع هُنا ما بعد الاستعماريّة بقوّة مع مقولة كارل ماركس: "لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بشتى الطرق، بيد أن تغييره هو الأهم".

ثمة مجموعة من المفاهيم الرئيسيّة السائدة في أسلوب تفكير ما بعد الاستعماري؛ كالاستشراق، والمركزية الأوروبيّة، والتابع، والغَيريّة، والازدواجيّة، والهيمنة، وغيرها. ولأغراض تتعلّق بهذا المقال، سأتوسّع قليلاً في الحديث عن ثلاثة من هذه المفاهيم.


المركزية الأوروبية

لِفهم الأسباب وراء تجاهُل العلاقات الدوليّة للشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار، فمن الضروري جداً الإشارة إلى آثار الثورة الصناعيّة التي ساهمت بصورةٍ بالغةٍ في خلق التفوق الأوروبي، على الصعيدين المادي والفكري. ففضلاً عن الحاجة إلى الموارد، شجّع هذا الحدث المِفصلي القوى الأوروبيّة على التوسّع خارج الحدود القاريّة من أجل نشر رؤيتها الحداثية في كافة أرجاء المعمورة، سواء بموافقة غير الأوروبيين أم بالقوة (سِث، 2011). هُنا، عُومِلَ غير الأوروبيّين بوصفهم "عاجزين"، ومن أجل تحديثهم، يتوجّب عليهم "الاقتداء بالقيم والمؤسسات الغربيّة" (بيسواس، 2016). وضمن هذا السياق، في وسعنا القول بأن النظام العالمي المعاصر لم يولَد بعد الحرب العالميّة الثانية، وإنما جاء نِتاجاً لعمليات تتعلّق بالاستمراريّة التاريخيّة من جهة، وبالتوسُّع المرتبط بالحقبة الاستعماريّة من جهةٍ أخرى، وسيصبح بمقدورنا وصف النظام الراهن بالنظام ما بعد الاستعماري.


الاستشراق

ثمّة عامل حاسم آخر في تعزيز الشعور بالتفوّق الأوروبي، والحديث هُنا عن الجانب الثقافي، ويتعلّق بالعمليات الممنهجة لخلق صورة مُتخيّلة لآسيا والشرق الأوسط، (الشرق)، بالاستناد بصورة رئيسيّة إلى الأعمال الأدبيّة للمستشرقين، حيثُ "يؤمن الغربي بأنه قادرٌ في هذا المكان على السيطرة والاستمتاع، والتغلغل والاستحواذ، والاختباء من سُلطة منظومة الأخلاق الفيكتوريّة" (سيلفستر، 2017). وفي كتابة الرائد، الاستشراق- المنشور في سنة 1978- ناقش إدوارد سعيد (1935-2003) أنه في نظر المستشرقين، لم تكن ثمّة أدنى أهمية للآليات التي تستخدمها المجموعات المحليّة للتعبير عن أنفسها، وإنما اعتمدوا على أعمال مُستشرقين آخرين كمصادر موثوقة للمعرفة. ولعلّه من الضروري جداً الإشارة هُنا إلى أن هذه العملية لم تُساهم فقط في تكوين صورة الشرق (المستعمَر)، بل شكّلَت أيضاً صورة الغرب (المستعمِر) باعتبارهما على طرفي نقيض، ولا يكفي مجرّد القول بأن هذا التصنيف مازال صالحاً حتى يومنا هذا، ولكنه لايزال التصنيف الأكثر سيطرة في العالم المعاصر (بيسواس، 2016؛ سيلفستر، 2017).


دراسات التابِع

تُعدُّ دراسات التابِع من ضمن أولى المُحاولات التي أثّرت على أسلوب التفكير ما بعد الاستعماري. وتعود بداياتها إلى الهند عندما قرّر مؤرخون دراسة "تاريخ، وثقافة، الجماعات التي تقع في المستوى الأدنى للمجتمع الهندي؛ المنبوذين" (سيلفستر، 2017). وفي مقالتها المعروفة "هل بإمكان التابع أن يتكلّم؟" المنشورة في سنة 1988، طرحَت الباحثة الهندية غاياتري سبيفاك سؤالاً في غاية الأهمية، بصدد كيف من الممكن الإصغاء إلى تلك الجماعات على الرغم من أن الإطار الاستعماري لايزال قائماً، حتى بعد نهاية الاستعمار بصورته التقليديّة




المصدر: رصيف22