كُتّاب الموقع
الثقافة الوطنيّة الجامِعة ودَورها في لبنان

د. مسعود ضاهر

الإثنين 22 تموز 2019

كَثُرت في الآونة الأخيرة مقالات ثقافيّة معمّقة تحذِّر من تراجُع دَور لبنان في مجالات عدّة، وبخاصّة على المستوى الثقافيّ. ونُشرَت تقارير تربويّة تُظهِر مَنْح شهادات أكاديميّة مزوَّرة تُستخدَم في مؤسّسات مدنيّة وعسكريّة للترقّي الوظيفيّ. وأَغلقَت مؤسّسات إعلاميّة وفنيّة أبوابها في لبنان. وتعاني دُور النَّشر اللّبنانيّة أزمة إنتاجٍ وتسويقٍ نظراً لعدم إقبال اللّبنانيّين على المُطالَعة وشراء الكُتب، وحضور ندوات لكِبار الشخصيّات الثقافيّة في العالَم. ففي تاريخ العاشر من أيلول (سبتمبر) 2018 استمعتُ، في الجامعة الأميركيّة في بيروت، إلى مُحاضرة ألقاها الأديب الأفريقيّ وولي سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب. كان الحضور قليل العدد في قاعة كان أكثر من نصفها فارغاً. وهناك أدلّة كثيرة تُظهِر تراجُع النشاطات الثقافيّة والفنيّة الجامِعة لمصلحة نشاطات طربيّة حاشِدة.

دلالة ذلك أنّ الثقافة الوطنيّة الجامِعة تُواجِه صعوبات كبيرة نظراً لفساد الطبقة السياسيّة في لبنان وهَيمنتها على الغالبيّة الساحقة من المؤسّسات الإعلاميّة، وتجاهلها للمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة غير الطائفيّة. فهي لا تلقى الحدّ الأدنى من دعم رأسماليّة ريعيّة مُهيمِنة تمتلك أكثر من مائة وخمسين مليار دولار في بنوكها العامِرة، إلّا أنّها تقدِّم مُساهمات خجولة جدّاً لدعم الثقافة الوطنيّة غير الطائفيّة، وتقاعست عمداً عن بناء المؤسّسات الجامِعة للثقافة الوطنيّة في لبنان وفي طليعتها الأرشيف الوطني، ودعْم الجامعة الوطنيّة، والإذاعة الوطنيّة، والمسرح الوطني، والمتحف الوطني وغيرها من المؤسّسات الحاضِنة للثقافة التي جعلت من لبنان في مرحلة الاستقلال سويسرا الشرق ومركزاً للتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، ورسالة للمحبّة والتآخي بين الشعوب على اختلاف ثقافاتها، وأديانها، وأعراقها، وتوجّهاتها السياسيّة.

لقد انتعشت الثقافات الطوائفيّة والمذهبيّة في لبنان إبّان الحرب الأهليّة ثمّ اتَّسعت دائرة مؤسّسات الطوائف الثقافيّة والإعلاميّة بعد اتّفاق الطائف، بحيث بات لكلّ طائفة زعماء ومتموّلون يحرصون على دعْم مؤسّساتها الثقافيّة والإعلاميّة والتربويّة والصحيّة، وهي تُشارك يوميّاً في تأجيج الخِطاب الطوائفي في لبنان. وباتت غالبيّة وسائل الإعلام اللبنانيّة تعتمد أسلوب الحوارات الطوائفيّة المُملّة، التي تقطع الطريق على الثقافة الوطنيّة الجامِعة. وذلك يتطلّب انخراط المتنوّرين اللّبنانيّين المُنتشرين بكثرة خارج دائرة الحوارات الطوائفيّة لدعْم الثقافة الوطنيّة الجامِعة على أُسس صلبة تعيد لبنان إلى دائرة الفعل الثقافي في محيطه العربي انطلاقاً من مقولات نظريّة فاعِلة أبرزها احترام خصوصيّة المجتمع اللّبناني من حيث التعدديّة السكّانيّة والتنوّع الثقافي من جهة، والتمسّك بالثقافة الوطنيّة الجامِعة في مجال بناء الديمقراطيّة التي تُعامِل اللّبنانيّين بصفتهم مواطنين أحراراً لا رعايا طوائف.

فالثقافة الطوائفيّة باتت اليوم تهدِّد ركائز البنية الوطنيّة في لبنان، وتُسهم في تأجيج النزاعات الطوائفيّة الداخليّة، وتُعيق بناء استراتيجيّة وطنيّة جامِعة تحمي وحدة لبنان في زمن التبدّلات المُتسارعة في منطقة الشرق الأوسط. كما أنّ الديموقراطيّة التوافقيّة المُعتمَدة تعمل لمصلحة تحالُف زعماء الطوائف والميليشيّات والرأسماليّة الريعيّة فقط، وذلك على حساب الأغلبيّة الساحِقة من اللّبنانيّين.

تجدر الإشارة إلى أنّ مقدّمة الدستور اللّبناني الجديد للعام 1992 نصَّت على أنّ " لبنان وطنٌ سيّد حرّ مستقلّ، وطنٌ نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضاً وشَعباً ومؤسّسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور، والمُعترَف بها دوليّاً ". وفي مجال التربية والتعليم، نصَّ الدستور على: " توفير العِلم للجميع وجعْله إلزاميّاً في المرحلة الابتدائيّة على الأقلّ. والتأكيد على حريّة التعليم وفقاً للقوانين والأنظمة العامّة، وحماية التعليم الخاصّ وتعزيز رَقابة الدولة على المَدارس الخاصّة، وعلى الكِتاب المدرسيّ، وإصلاح التعليم الرسميّ والمِهنيّ والتقنيّ وتعزيزه وتطويره بما يلبّي حاجات البلاد الإنمائيّة والإعماريّة ويلائمها، وإصلاح أوضاع الجامعة اللّبنانيّة، وإعادة النَّظر في المَناهج وتطويرها بما يعزِّز الانتماء والانصهار الوطنيَّين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكِتاب في مادّتَي التاريخ والتربية الوطنيّة". لكنّ تطبيق اتّفاق الطائف تعثَّر بسبب هَيمنة النزعة الطوائفيّة ثمّ المذهبيّة لدى زعماء الطوائف في لبنان، ما حال دون تنفيذ غالبيّة البنود الإصلاحيّة. وانتشرت على نِطاقٍ واسع " ثقافة الفساد والإفساد" في ظلّ صيغة طوائفيّة مولِّدة للنزاعات الدمويّة بين اللّبنانيّين.

وبدافِع الحفاظ على مَوقِعٍ ثابتٍ في النظام السياسي الطائفي اللّبناني، يَستخدم الزعيم السياسي اللّبناني كلّ ما في حَوزته من الروابط العائليّة، والطائفيّة، والزبائنيّة، وتحالفات المَصالِح المُتبادَلة. وباتت جماهير الطوائف تُعامَل كرعايا بعد أن عجز أفرادها عن تأكيد هويّتهم كمُواطنين أحرار في دولة ديموقراطيّة عصريّة. وهي صيغة سياسيّة متخلّفة تَضمن لزعماء الطوائف مَصالحهم الشخصيّة أو الحزبيّة أو الطائفيّة الضيّقة على حساب قيام الدولة ومؤسّساتها وجماهير جميع الطوائف، بخاصّة فئة الشباب منهم التي تعاني من الفقر، والبطالة، والهجرة القسريّة إلى الخارج بأعدادٍ سنويّة كبيرة. وبات لبنان الوطن أسير تشنّجات داخليّة لا حصر لها في ظروفٍ إقليميّة ودوليّة خطيرة جدّاً تُهدِّد منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

بيد أنّ الساحة اللّبنانيّة تشهد اليوم حراكاً مُرتبكاً يهدف إلى توحيد جهود جميع اللّبنانيّين لمُواجَهة التحدّيات الكبيرة التي تهدِّد لبنان، وبخاصّة المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي يرتبط وثيقاً بمشروع الشرق الأوسط الكبير برعاية أميركيّة – إسرائيليّة. يُدرك دعاة هذا التيّار أنّ مهمّتهم ليست سهلة. فقد أثبتت الطائفيّة قدرتها على تفكيك القوى السياسيّة، وبخاصّة الشبابيّة منها، المُطالِبة بالتغيير الديموقراطي السِّلميّ.

انطلقت حركة التغيير من المُطالَبة بدعْم الثقافة الوطنيّة الجامِعة لحماية لبنان من التدخّلات الخارجيّة وبِناء نظامٍ سياسي ديموقراطي على خلفيّة وطنيّة غير طائفيّة. وهناك قاعدة وطنيّة صلبة تجمع اللّبنانيّين على اختلاف طوائفهم ومَناطقهم، وتوجِّه شباب لبنان للمُطالَبة بشعارات سياسيّة وطنيّة توحِّد بين اللّبنانيّين ولا تُفرّقهم، وتمهِّد الطريق للانتماء الوطني اللّبناني الجامِع.

تُحاول قوى التغيير الشبابيّة تقديم حلولٍ عقلانيّة للقضايا الوطنيّة والسياسيّة والمعيشيّة الجامِعة. فالشباب هُم قوّة التغيير الأساسيّة والأكثر قدرة على بناء نظامٍ سياسي وطني ديموقراطي جامِع. واللّبنانيّون اليوم على قناعة تامّة بأنّ النظام الطائفي لم يعُد يتلاءَم مع طبيعة عصر العَولَمة وثورات العلوم والتواصل. وهو يهمِّش أصحاب الكفاءة العلميّة من الشباب المتنوّر والمزوَّد بثقافة عصريّة، ويرفض المساواة بين المرأة والرجل في كثير من المجالات، ويمنع إشراك المرأة في الحياة السياسيّة والنقابيّة بما يتلاءم مع حجمها ودَورها. الشباب اللّبناني المُنتفِض هُم اليوم طليعة التغيير الشمولي والإصلاح الجذريّ. كما أنّ نجاحهم في مهمّتهم الوطنيّة يحصِّن المجتمع اللّبناني في مُواجَهة مشاريع التقسيم المُعلَنة. وهُم يدعون إلى حوارٍ جماعي معمّق وصولاً إلى استراتيجيّة وطنيّة جامِعة لمُواجَهة التحدّيات الخطيرة المُحدقة بلبنان واللّبنانيّين، وأبرز سماتها:

1- التمسّك بالحدود الجغرافيّة التي رُسمَت عند الإعلان عن دولة لبنان الكبير في العام 1920، لكي يثبتوا من خلال التضامن الوطنيّ الجامع أنّ الدولة اللّبنانيّة العصريّة لم تنشأ بمجرّد قرار فرنسي بل كانت لها جذور داخليّة عميقة، وأنّ مرحلة الاستقلال السياسي نجحت في لبْنَنَة جميع المناطق والطوائف في لبنان.

2- بناء وحدة داخليّة صلبة لمُواجَهة التدخّلات الخارجيّة التي ما زالت تلعب دَوراً أساسيّاً في تفجير الساحة اللبنانيّة منذ أواسط القرن التاسع عشر .

3- العمل المتواصل لكي يصبح النّظام اللّبناني ديمقراطيّاً بالفعل وليس بالشكل، وأن يُثبت قطيعته الإبستمولوجيّة مع النّظام المقاطعجي القديم الذي قام على التصفيات الدمويّة بين الزعماء داخل كلّ طائفة، وجماهير الطوائف المُتناحرة وفق رغبات زعمائها ومَصالحهم.

4- الاستفادة القصوى من دروس الانتفاضات الشعبيّة في تاريخ لبنان، والتي أسهمت منذ القرن التاسع عشر في تحرّر الإنسان اللّبناني. وقد أُدخلت تعديلات سياسيّة جذريّة في صلب النظام السياسي القديم بحيث لم يعُد حكراً على أبناء العائلات فقط، بل فتح الباب لبروز قيادات جديدة من القوى الشعبيّة ومن البرجوازيّة الحديثة النشأة، وبخاصّة برجوازيّة الحرير التي تزايَد دَورها بقوّة. وقد نجح نظام المتصرفيّة في إدخال الطائفيّة المستقرّة في صلب النظام السياسي. ما ساعد على استقرار جبل لبنان لأكثر من نصف قرنٍ في ظروفٍ إقليميّة معقّدة.

5- التصدّي للطائفيّة المتفجّرة مع التركيز على ضمان استقرار النظام السياسي، وإيجاد صيغة مَرِنة للتحالفات البرلمانيّة، وترسيخ صيغة العَيش المُشترَك، ورفْض الاحتكام إلى السلاح وكلّ أشكال العنف، والدعوة إلى احترام التعدديّة والتنوّع، والحِفاظ على الحرّيات الفرديّة والعامّة، واحترام الآخر وتجاوُز الدعوة إلى العزلة عنه، ورفْض الشعارات التي تشكِّل تهديداً للعَيش المُشترَك والوحدة الوطنيّة.

خِتاماً، أسهَم المثقّفون اللّبنانيّون في دراسة تجارب التحديث الناجحة في العالَم. وبدا واضحاً أنّ الثقافة الوطنيّة الجامِعة ركيزة صلبة في بناء الديموقراطيّة السليمة التي تعزِّز الوحدة الداخليّة بين اللّبنانيّين. ومن أولى مهمّاتهم اليوم إنتاج مقولات نظريّة جديدة لديمقراطيّة فاعلة بخصائص لبنانيّة تنطلق من دعم الثقافة الوطنيّة الجامِعة للحِفاظ على العَيش المُشترَك، وضَمان التفاعل الإيجابي بين القوى الاجتماعيّة. فنجاح تجارب التحديث في الدول الديموقراطيّة المتطوّرة يعود إلى دَور بورجوازيّة الإنتاج التي شارَكت بفاعليّة في تطوير القوى المُنتِجة وعلاقات الإنتاج في بلدانها. في المقابل، ما زال اللّبنانيّون أسرى رأسماليّة ريعيّة لم تُسهم في حلّ الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في لبنان بل زادتها تعقيداً.

 

 


*مؤرّخ وكاتب من لبنان



المصدر: مؤسسة الفكر العربي