كُتّاب الموقع
أكبر من مسألة رواتب قضية الجامعة اللبنانية ... قضية مستقبل الوطن

د. جمال واكيم

الجمعة 10 أيار 2019

يكمن جوهر القضية المطروحة اليوم في الجامعة اللبنانية هو استمراريتها، في ظل مواصلة النخبة السياسية التي وصلت الى الحكم بعد نهاية الحرب الأهلية لسياسات النيوليبرالية القاضية بتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع، مع ما يستتبعه ذلك من بيع القطاع العام بالكامل تحت مسمى الخصخصة.


واذا كانت الولايات المتحدة أول من بدأ يتراجع عن سياسات الخصخصة هذه ومعها العديد من الدول الأوروبية ومن ضمنها فرنسا، إلا أنها لا تزال تفرض على دولنا النامية نفس السياسات التي اوصلتنا للتهلكة في العقود الأربعة الماضية، والتي أدت الى تفجر أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة نفسها في العام 2008 لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم.


وكجزء من سياسات الخصخصة هذه وتقليص دور القطاع العام بدأ اهمال الجامعة اللبنانية منذ بداية الحرب الأهلية في العام 1975 في اطار ضرب الهوية الوطنية لصالح الهويات الطائفية المجزئة لهذا الوطن. فتمت تجزئة الجامعة اللبنانية إلى فروع تحت سيطرة الطوائف. وبعد الحرب تمت مصادرة استقلالية الجامعة عبر مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة.


وقد تلا ذلك تجميد معاش الاساتذة لفترة طويلة، فكان الاستاذ الجامعي لا يتلقى الا ألف دولار كراتب شهري حتى سويت أموره في عهد الرئيس الدكتور عدنان السيد حسين. وكان الهدف من تجميد الراتب قبل ذلك تطفيش الاستاذة ودفعهم الى ترك الجامعة.


في هذا الوقت كانت قد تمت تجزئة الجسم الأكاديمي في الجامعة إلى ثلاثة مكونات هي المتعاقدين والمتفرغين واساتذة الملاك، وذلك بغية التفرقة بينهم ومنع توحيد جهودهم للدفاع عن الجامعة.


وبنتيجة مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة بات الدخول الى الجامعة يمر فقط عبر "واسطة" أولي الأمر زعماء الطوائف ليصبح الاستاذ الجامعي في قبضة الزعيم والمتنفذ. وكجزء من اضعاف الجامعة، الغيت الانتخابات وصودرت المجالس الطلابية من قبل زعماء الطوائف.


وقد اضيف الى مساعي اضعاف الجامعة، تفريخ "جويمعات" خاصة في معظمها طائفية تعتمد نهج "جاك ماراتن" بتنجيح الجميع، "تو لو موند آ غانيي"، حتى يقال أنه لا حاجة لجامعة عامة.


وقد بدأ الحديث عن أكلاف وهدر وتشكيك بكفاءة اساتذة الجامعة وأهليتهم والتزامهم الأخلاقي تجاه الطلاب من قبل أولي الأمر الذين فتحوا جامعاتهم. وأنكر هؤلاء دور الجامعة كاستثمار اجتماعي ووطني مؤهل للمجتمع ومؤسس لمستقبل الوطن.


وتأتي الخطوة الأخيرة بالدعوة لتقليص رواتب أساتذة الجامعة والتقديمات الاجتماعية المستحقة لهم والمقتطعة أصلا من رواتبهم لتشكل محطة جديدة في الجهود التي تبذلها سلطة ميليشيات الطوائف لتصفية الجامعة. فالمساس براتب الاستاذ هو ضرب لقدرته على الاستمرار في العمل خصوصا أن معاشه ليس عاليا أصلا، إضافة إلى انه لم يشمل بسلسلة الرتب والرواتب التي يضع عليها أهل الحكم المسؤولية في التسبب في أزمة في البلاد، عوض أن يعالجوا السبب الرئيسي في الازمة والمتمثل بسياسات الهندسة المالية التي هندست المصيبة التي نحن فيها، والسبب الآخر المتمثل في النهب الذي مارسه أهل الحكم طوال العقود الثلاثة الماضية ناهيك عن انجازاتهم خلال الحرب الأهلية.


إذن فإن القضية ليست قضية رواتب، بل هي قضية استمرارية الجامعة في أداء دورها، والاساتذة، اذ يتحركون اليوم، فهم يقومون بذلك لأنهم كانوا في السابق يحاولون ايجاد هاش لهم في ثغرات النظام الطائفي المتقاسم للوطن، فإذا بهذا الهامش يضيق إلى آخر حد خانقا اياهم الى درجة الانفجار، وما قضية الرواتب الا القشة التي قسمت ظهر الاستاذ الذي جار عليه الزمن فركب على ظهره البعير.


إن القضية هي قضية الجامعة اللبنانية ودورها الوطني، وفي هذا الاطار، واذ نستحضر ما درج عليه أهل الحكم من ربطنا بالتاريخ الفينقي، فإننا نقول أنه كان لفينيقيا وجهان عرفت بهما، وجه ثقافي جعل الحرف الأبجدي ارثها الذي صدرته الى العالم، ووجه التاجر المستعد لبيع كل شيء وأي شيء لتحقيق وهم ربح. ولقد كان التاجر بفينيقيا هو الذي قضى على فينيقيا ودرتها في الشرق وهي صور، حين ائتلف من ابتغى ربحا آنيا مع غزاتها المقدونيين ضدها.


واليوم نجد أن منطق التاجر يهدد بسعيه للربح الآني، أيقونة الحرف الجديدة وهي الجامعة اللبنانية، وبهذا يتم تهديد الوطن من جديد.



المصدر: أخبار لبنان 961