كُتّاب الموقع
مئويّة نهاية الحرب العالَميّة الأولى: حرب عالَميّة ثالثة أم ولادة إنسان جديد؟

سركيس أبوزيد

الجمعة 7 حزيران 2019


100 عام مرَّت على نهاية الحرب العالَميّة الأولى التي غيَّرت جذريّاً النّظام الدوليّ الذي كان سائداً آنذاك. حصدت الحرب 20 مليون قتيل، ودمَّرت أربع إمبراطوريّات: الألمانيّة، المجريّة، الروسيّة، العثمانيّة. قبل اندلاع الحرب العظمى، كان مركز توازن القوى العالَميّ في أوروبا؛ وبعدها ظهرت الولايات المتّحدة واليابان كقوّتَين عظميَيْن. كما بشَّرت الحرب أيضاً بالثورة البلشفيّة في العام 1917، ومهَّدت الطريق للفاشيّة، وأسَّست للحرب العالَميّة الثانية، وانعكست مصيريّاً على المَشرق العربيّ، فقسَّمته سياسيّاً ومجتمعيّاً بموجب اتفاقيّة سايكس - بيكو ووعد بلفور وأنظمة الاستبداد والتبعيّة.

فلسطين هي أكبر ضحايا الحرب العالميّة الأولى، وهي الشاهد الحيّ والدليل على تآمر القوى الكبرى عليها، وكأنّ الحرب العالَميّة الأولى قد قامت لأجل احتلالها وتغيير مَعالمها وصهينتها وشطب هويّتها، وتبديل سكّانها.

كانت الإمبراطوريات السابقة قويّة، بما يكفي، لتشمل مجموعات سكانيّة مختلفة. لكنّ الذين أعادوا تشكيل العالَم في مؤتمر السلام كانوا ضعفاء ومُتصارعين، فاضطرّوا إلى إعطاء بعض الأُمم والجماعات الحقّ في تقرير المصير. فظهر العديد من الحكومات من ضمن حدود جغرافيّة مُتداخِلة مُتنافِسة بين مُطالبات متناقضة أدّت إلى نشوء كيانات سياسيّة تعكس التجزئة والانقسام.

لماذا يحتفل القتلة بذكرى الحرب العالميّة الأولى، فيما نحن الضحايا الحقيقيّون لحروب أوروبا وأميركا وجرائمهما؟

الضحايا يحرصون على إحياء ذكرى المذابح التي تعرّضوا لها، لحثّ شعوبهم على عدم النسيان، وتجنُّب المصير ذاته مرّة أخرى. أمّا المجرمون، فيحتفلون بذكرى نهاية المقتلة العالَميّة الأولى لتذكيرنا بجبروتهم على تكرار جرائم القتل بالجملة.

إنّ الذين اجتمعوا فى باريس للاحتفال بالذكرى المئويّة لنهاية الحرب العالميّة الأولى هُم أحفاد القوى والقادة والحكّام والدول والإمبراطوريّات التي تسبَّبت في مقتل ما يزيد على عشرين مليونٍ من البشر. إنّهم يحتفلون بنهاية الحرب التي لم تنتهِ آثارها المدمِّرة حتّى يومنا هذا، ففيها تمّ تقسيمنا بموجب اتّفاقيّات سايكس - بيكو، وتمّ توزيعنا كغنائم حرب على المُنتصرين من الأوروبيّين. وفيها قام الأوروبيّون باحتلال القدس للمرّة الأولى منذ أنّ حرَّرها صلاح الدّين في العام1187، ودخلها الجنرال الإنكليزي اللّنبي بجيوشه في 9/12/1917 وقال قولته الشهيرة: " اليوم انتهت الحروب الصليبيّة". وهو المعنى ذاته الذي كرَّره بعده الجنرال الفرنسي هنري غورور حين احتلَّت قوّاته دمشق في 25 تمّوز (يوليو) 1920، فذهب إلى قبر صلاح الدّين وقال بشماتة "ها قد عدنا يا صلاح الدّين".

بعد قرن من الهدنة التي أَنهت الحرب العالَميّة الأولى، ما زال تأثيرها مستمرّاً. والدول المتشكِّلة نتيجة للحرب من بولندا إلى سوريا، مروراً بمعظم الدول التي ظهرت على أنقاض الإمبراطوريّات القديمة تُواجه تحدّيات للتوفيق بين الإيديولوجيّات الوطنيّة، ومبدأ حقّ تقرير المصير، وواقع التنوّع والتعدُّد. من جهة أخرى، لا تزال الدول التي ورثت الإمبراطوريّات القديمة مثل روسيا وتركيا تُصارع لاستعادة مكانتها السابقة ومساحات واسعة من الأراضي التي خسرتها، وتستلهم الماضي ودروسه سعياً إلى إعادة تشكيل نظامٍ إقليمي يشبه النظام الإمبراطوري الذي ساد في المنطقة التي كانت تحت سيطرتها سابقاً.

وزير الخارجيّة البريطاني سير إدوارد جراي توصَّل إلى اعتقاد مفاده " أنّه لم يكُن بوسع أيّ إنسان أن يمنع اندلاع تلك الحرب". رأي ما زال مطروحاً الآن مع تزايد المَخاوف من تكرار الحرب الساخنة بعدما عرف العالَم حرباً باردة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفياتي تتجدَّد مَلامحها اليوم. وينقسم العالَم بين نظرة مُتشائمة تتوقَّع الحرب ونظرة مُتفائلة تبشِّر بعالَم أفضل أكثر أماناً.

هل نحن على أبواب حرب عالَميّة ثالثة؟ أهل التكفير يشنّون شكلاً من حرب إرهاب عالَميّة ضدّ كلّ مَن يُخالفهم الرأي. حركات المُقاوَمة تتحوّل إلى نَوع من الحرب العالَميّة ضدّ المَظالِم والاحتلالات. حرب عالَميّة من نَوع آخر تندلع من أجل التكنولوجيا والبيئة والمَوارد الحياتيّة، ولاسيّما المياه. حروب عالَميّة عِلميّة مدمِّرة تُهدِّد بنهاية البشريّة. وفضلاً عن عَولمة الإرهاب والمُقاومة، يرسم آخرون سيناريوهات حرب عالَميّة كلاسيكيّة متوقَّعة بين الولايات المتّحدة والصين وروسيا، ويتساءلون: هل يُمكن تفاديها؟

مارغريت ماكميلان، مؤلِّفة كِتاب "الحرب التي أنهت السلام" تُقارن العلاقات بين الصين والولايات المتّحدة اليوم بالعلاقات بين ألمانيا وبريطانيا قبل قرن من الزمان. مُقارَنة مُماثلة أجرتها مجلّة "الإيكونوميست". أمّا جون ميرشايمر، وهو من عُلماء السياسة في جامعة شيكاغو، فيتوقَّع أنّه "من غير المُمكن للصين أن تصعد بشكلٍ سلميّ".

لكنّ الحرب مستبعَدة، لأنّ الفجوة الإجماليّة في القوّة اليوم بين الولايات المتّحدة والصين أعظم من الفجوة التي كانت بين ألمانيا وبريطانيا في العام 1914.

تعتمد الصين سياسة خارجيّة أكثر قوميّة، وخطّة داخليّة غير عاديّة أدّت إلى نموّ اقتصادي يتوسّع بقوّة. لمُواجهة هذه التحدّيات، يتخوّف المُتشائمون من أن تنزلق بكين إلى نزاع مع اليابان قد يتطوّر إلى حرب عالَميّة، فتضطرّ الولايات المتّحدة إلى دعم اليابان وإلحاق هزيمة عسكريّة مذلّة بالصين. بينما المتفائلون واثقون من أنّ المواجهات لن تنجرّ إلى مرحلة خوض مغامرة عسكريّة مأسويّة.

التشاؤم يتنازع جبهة الصين وأميركا، ماذا عن جبهة روسيا وأميركا؟

يتخوّف المتشائمون من أن يهدِّد قرار بوتين بالعودة الى الصحوة الروسيّة، وإحياء امبرطوريّة من جديد، بإشعال حرب عالَميّة. ويُذكر أنّه منذ قرن من الزمان كانت بداية حريق مدمّر في أوروبا انطلاقاً من البلقان، فهل تتجدَّد الحرب العالَميّة الأولى انطلاقاً من روسيا بوتين؟

قال هنري كيسنجر في حوار أجرته معه جريدة "ديلي سكيب" الأميركيّة، " إنّ الحرب العالَميّة الثالثة باتت على الأبواب، وإيران ستكون هي ضربة البداية في تلك الحرب، التي سيكون على إسرائيل خلالها أن تقتل أكبر عدد مُمكن من العرب وتحتلّ نصف الشرق الأوسط". ويردّ المتفائلون بأنّ عالَم اليوم يختلف عن العالَم كما كان في العام 1914.

إيديولوجيّة الحرب باتت أضعف في الوقت الحاضر. ففي العام 1914، ساد تصوّر بأنّ الحرب حتميّة، وهي نظرة قَدَريّة عزَّزتها الحجّة الداروينيّة الاجتماعيّة بأنّ الحرب مرحَّب بها، لأنّها تعمل على "تنقية الأجواء"، مثل عاصفة الصيف، كما كَتب ونستون تشرشل في كِتابه "أزمة العالَم". لذلك اندفعت الأُمم بشراسة نحو النزاع والدمار، كأنّ العالَم كان راغباً في المأساة.

لا شكّ في أنّ القوميّة تنمو اليوم، وبخاصّة في الصين وروسيا ودول أخرى، وأنّها قد تتواجه مع مصالِح قوميّات أخرى. تشنّ الولايات المتّحدة حرباً عالَميّة بالتقسيط، ولاسيّما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. لكنّ الدول الكبرى ليست مولعة بالقتال أو راضية عن الحروب المحدودة. لكنّ أيّ خطر مصيري بالمُواجَهة يُمكن الحدّ منه باللّجوء إلى الخيارات السياسيّة السلميّة. وإمكانيّات التعاون ما زالت أقوى من احتمالات الحرب في ما يتعلّق بالعديد من القضايا. وانتهاج أيّ سياسة مُغامِرة من شأنه أن يعرِّض مَكاسب البلدان في الداخل والخارج للخطر. لذلك لديهم الخيارات والوقت لإدارة العلاقات بينهم بنجاح.

من بين الدروس التي ينبغي لنا أن نتعلّمها أنّ الحرب لا تكون حتميّة أبداً، ولو أنّ الاعتقاد بكونها حتميّة قد يصبح أحد أسبابها. ولكن هل أصبح العالَم مكاناً أكثر أماناً بعد مرور مائة عام على الهدنة التي أوقفتها؟

بحثت أجيالٌ من المؤرّخين والخبراء وصنّاع السياسات بكلّ دقّة في أصول الحربَين العالَميّتَين والتأمّل في إيجاد صيغة بين القوّة والعدالة في إدارة شؤون الحكم العالَمي.

كانت الجهود المُضنية التي بُذِلَت منذ نهاية الحرب العالَميّة الثانية لبناء مؤسّسات حُكم إقليميّة وعالَميّة فعّالة سبباً في الحدّ، وبشكلٍ كبير، من خطر وقوع كوارث مثل الحروب العالَميّة. بعد عصبة الأُمم والأُمم المتّحدة، لا بدّ الآن من إصلاح المؤسّسات الأُمميّة وإيجاد صيغة أفضل لإدارة الأُمم تكون أكثر فعاليّة ومُشارَكة وتعاوناً من أجل حلّ النزاعات وايجاد عالَم أكثر رفاهيّة.

يؤكِّد المُتشائمون أنّ العالَم لا يزال زاخراً بالمشكلات، كما تشير إلى ذلك وسائل الإعلام كلّ يوم. لكنّ المُتفائلين يركّزون على اجتثاث الفقر، والقضاء على الأميّة، وتعزيز السلام، ويذكرون أنّ العالَم أصبح في المجمل مكاناً أفضل ممّا نتصوّر.

بعيداً عن التشاؤم

بعيداً عن التشاؤم، أصبح العالَم بحاجة إلى رؤية أكثر إنسانيّة وأخلاقيّة لبناء إنسان جديد يعترف بالآخر ويضحّي من أجل الغير ويهزم الأنانيّة ويكون قادراً على إطلاق ثورة ثقافيّة لعالَمٍ جديد.

هل نشهد موت الإنسان الفرداني الإلغائي للآخر العدواني الذي يزرع الحروب والتدمير والخراب، كما بشَّرنا فرنسيس فوكوياما في ما سمّاه "نهاية التاريخ"، أو أنّنا دخلنا مرحلة تاريخيّة لإنقاذ الحضارة والإنسانيّة بولادة إنسان جديد يعمل على إيجاد سُبل جديدة للتعاون؟ ولا بدّ أن يكون الأساس الذي يقوم عليه هذا التعاون هو إيثار الآخر وإنكار الذّات.

100 عام مرّت على نهاية الحرب العالَميّة الأولى، وما زال الإنسان يعيش صراعاً بين الحرب والأمان، وبين نزعته الداروينيّة العدوانيّة وتوقه إلى تجسيد الأخلاق والقيَم السامية في عالَمٍ جديد.

هل مات الإنسان أم ولد من جديد؟ سؤال يستحقّ التأمّل والبحث في مئويّة حرب حتّى لا تتكرّر!



المصدر: مؤسسة الفكر العربي