من بين الأسئلة التي تعد مثار جدل ونقد، علاقة العلمانية بالإسلام وهل هي علاقة تصادم أم توافق؟ وهل يمكن للمسلم أن يدعو إلى الإسلام والعلمانية في آن، وما طبيعة النموذج العلماني الذي تحتاجه الدول العربية؟
الجواب: أننا طبعا نحتاج إلى العلمانية لأنها تشكل حلا لمجموعة من الأزمات السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية والثقافية والهوياتية التي تهدد مستقبل الدول العربية وتعجل بانقسامها إلى دويلات متناحرة، وعلى رأس الأزمات علاقة الدين بالسياسة التي أدت كما حصل في محطات تاريخية من قبل إلى عودة الصراع السياسي الديني والحروب الطائفية التي سبق لها وأن خربت بلدانا وها هي الآن تعيد الكرة من جديد، ويكفي ما يحصل في اليمن وسوريا والعراق.. لنتيقن أننا في حاجة إلى فصل الدين عن السياسية.
فالعلمانية باعتبارها مزيجا من فلسفات وأيدولوجيات متعددة، استمدت جوهرها من الفلسفة الوجودية بشقيها الديني والإلحادي إبان "القرن السابع عشر" ما أسفر عن بروز علمانيتين متصارعتين بحيث لا يجوز الخوض فيهما دون تحديد طبيعتهما؟
فالنموذج العلماني الأول لا يرى مشكلة في وجود الدين في المجتمع، ويهدف إلى بناء الدولة المدنية لا الدولة الدينية التي يتم فيها احتكار السلطة من طرف رجل واحد، كما يدافع عن حرية الأفراد في اختيار الأديان وممارسة الشعائر الدينية مع الجماعة، وهو ما ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة الثامنة عشرة)، فهذه العلمانية تشكل ضرورة حيوية أكثر من أي وقت مضى -وخاصة الدول العربية- التي تتمتع بالتعددية الدينية والعرقية والثقافية واللغوية..
ففي ظل التعددية من الواجب على الدول أن تنتقل من نظام الدولة الدينية أو سياسة الحاكم الآمر الناهي، إلى نظام الدولة العلمانية، أي من دولة تفرض الدين بقوة السلطة على كل رعاياها، في الدساتير والقوانين الجنائية والمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية.. إلى دولة علمانية تقضي على كافة أشكال الإكراه الديني باسم الدولة، دون تسييس الدين واستغلاله كأداة تنساق مع مختلف المستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ما يعد تسييسا للمتعالي وتدنيسا للمقدّس، حسب تعبير المفكر الراحل محمد عابد الجابري.. إلخ
فالدين في النهاية مرتبط بوجدان الإنسان، وعلى الدولة أن تتعامل مع الأفراد وفق مبدأ الوفاء للوطن وخدمته والعمل على ازدهاره ورقيه في مختلف المجالات، ليس باعتبارهم مسلمين أو سنة أو شيعة أو مسيحيين أو دروز.. والعلمانية التي قلنا إنها لا تهدف إلى نزع الدين من القلوب كحال نقيضتها، شكلت دعامة أساسية في انتشار الدين الإسلامي بأوروبا وأمريكا.. فمن السذاجة أن نشجع العلمانية في أوروبا لأنها تتيح لنا ولأهالينا حرية ممارسة الشعائر الدينية، بينما نحاربها في أوطاننا، ونمنع غير المسلمين من ممارسة حريتهم الدينية، ونعمل على شيطنتها في الإعلام ومن طرف الدعاة والشيوخ المتنطعين وتسويقها باعتبارها ضربا من الكفر والإلحاد..
أما بخصوص النموذج العلماني الثاني، فهو لا يكتفي بفصل الدين عن الدولة وإنما يمتد إلى غاية تشكيل مجتمع ينفر من كل ما هو ديني أو إلهي أو غيبي عبر خلق دين بلا إله، أساسه الأخلاق الدهرانية التجريدية -حسب تعبير طه عبدالرحمن- وهذا ما تم ويتم بالفعل في بعض الدول الأوروبية التي تدعي العلمانية وحقوق الإنسان والحرية، بينما تمعن في استغلال مختلف الوسائل الإيديولوجية والسياسية والقانونية من أجل تقييد حرية ممارسة الشعائر الدينية، كما هو الحال عند شريحة كبيرة من المسلمين الذين يعانون باسم العلمانية عدمَ امتلاك الحرية كالتي يتمتع بها اليهود والمسيحيين، ما يجعل المجتمع الإسلامي الأوروبي أمام علمانية مسيسة من طرف أحزاب سياسية راديكالية تستغل ورقة النهج العصري من أجل الظفر بالانتخابات.
فعلى سبيل المثال، حينما تصادر حرية المرأة في الولوج إلى المسابح والشواطئ بدعوى أنها ترتدي "المايوه الإسلامي"، الذي يتناقض مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، فحينها لا يمكن إلا أن نقف ضد هذه العلمانية وهذا الإجهاز على حرية المرأة وتقييدها، غير أن الأمر لا يتعلق بالمرأة لأنها دائما تعد ضحية العلمانية الفرنسية الراديكالية، وإنما هو مرتبط بمنهج سياسي ضد مسلمي فرنسا، من طرف بعض السياسيين الذين لا يرون في العلمانية سوى الأداة الفاعلة من أجل محاربة المسلمين، وكسب رهان الاستحقاقات السياسية، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي والوزير الأول الفرنسي مانويل فالس الذي قال إنه سيناضل من أجل أن يلبس يهود فرنسا "الكبة".
بينما قال حينما سئل عن "المايوه الإسلامي" وحرية المرأة في الاختيار، إنه لا يعد اختيارا وإنما هو إخضاع للمرأة وتقييد لحريتها؟؟ فهذا النموذج يؤكد أن العلمانية الفرنسية مسيسة من طرف أحزاب يمينية وأخرى يسارية ومن طرف مفكرين ووجوه بارزة في الحقل الإعلامي الفرنسي من أمثال: إريك زيمور، ميشيل أونفاي، برنارد هنري ليفي، ألين فرنكلكروت، والصحافية كارولين فورست.. فمثل هذه الممارسة تندرج في إطار النموذج العلماني الذي يعارض العلمانية الحقيقية المتمثلة في ضمان حرية الاختيار للفرد أيا كان أصله وجنسه.
ومنه لا يمكن للمسلم أو المتدين أن يناصر العلمانية في شقها الراديكالي الذي يهدف كما قلنا إلى نزع الدين من القلوب بنزعه من المجتمع، لكنه في المقابل يمكن للمسلم أو المسيحي أو اليهودي.. أن يكون علمانيا بالمفهوم الأول للعلمانية الذي يؤمن بضرورة بقاء الدين مرتبطا بوجدان الإنسان لا منخرطا في مؤسسات الدولة وفاعلا حيويا في هياكلها، وذلك اتقاء لاستغلاله سياسيا واستثماره في الصراعات السياسية المبنية على الديماغوجية والمكيافيلية وأحيانا البلطجية.
وفي كل المجتمعات نجد الكثير من المتدينين العلمانيين مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وغيرهم، يقفون موقف المعارض لتديين مؤسسات الدولة، وهؤلاء كلهم علمانيين في الشق الأول للعلمانية. ومنه فإنه من الواجب على الدول العربية أن تأسس لمرحلة انتقالية جديدة في معالجة إشكالية الدين والتعاطي السياسي وذلك بتبني النموذج العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة، تحت سقف حماية التعددية الثقافية والعرقية والدينية لمختلف الأفراد من أجل المساهمة في القضاء على كافة أشكال الإرهاب الديني والتعصب الفكري والتمييز العرقي في أفق توطيد روابط التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع.