سوريا الجديدة والمجتمع المسيحي: توازن هش وثقة مفقودة
العرب اللندنية
الثلاثاء 2 أيلول 2025
يشهد المجتمع السوري تحولات جذرية في مرحلة ما بعد الحرب، وسط واقع سياسي وديني جديد يفرض على مكوناته تحديات مختلفة. ويبرز وضع المسيحيين كمؤشر حساس على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين مخاوف قديمة وآمال في تحول سلمي يضمن الحقوق والحريات.
بين الأمل والحذر يجد المسيحيون السوريون أنفسهم في قلب مشهد سياسي وأمني متغير، حيث لا تزال الأسئلة حول مستقبلهم مفتوحة في ظل حكم إسلامي جديد لا يشبه ما حذّرهم منه النظام السابق.
في صباح يوم 6 يوليو الماضي استيقظ المصلّون في مدينة صافيتا الساحلية الصغيرة على رسائل تهديد بالموت علقت على أبواب الكنائس، موقّعة باسم جماعة “سرايا أنصار السنة”. وكانت الجماعة نفسها قد تبنّت قبل أسبوعين تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، والذي أودى بحياة 25 مصلّيا.
وأعاد هذا الهجوم تسليط الضوء على أوضاع المجتمع المسيحي بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود الرئيس الجديد أحمد الشرع. وفي مدينة السقيلبية، إحدى البلدات ذات الغالبية المسيحية في ريف حماة الغربي، بدا الوضع أكثر هدوءًا.
الحكومة الجديدة لا تستهدف المسيحيين بشكل ممنهج، لكن المسار نحو الثقة والاندماج لا يزال طويلا ومعقدا
ووصف الكاهن الأرثوذكسي الأب ديميتري منشورات التهديد بأنها خدعة ينفذها متمردون علويون موالون للنظام السابق من أجل إثارة الخوف. ورغم نفي القساوسة في صافيتا لوجود توتر فعلي، فإن الواقع أكثر تعقيدًا.
وتغيّرت السقيلبية جذريًا بعد سقوط النظام؛ ميليشياتها الموالية للأسد، المدعومة روسيًا، تفككت وفرّ قادتها إلى موسكو. واليوم يدير البلدة تحالف غير معتاد: ضابط سني من هيئة تحرير الشام يدعى فايز لطوف، ورئيس بلدية مسيحي هو أمجد حداد، قائد سابق في الجيش السوري الحر.
وتكمن المفارقة في أن الحكومة السورية الجديدة لم تفرض تغييرات جذرية على الحياة اليومية حيث لا تزال المقاهي مفتوحة حتى منتصف الليل، ويُقدم فيها الكحول. وعندما حاول لطوف فرض قيود، واجه رفضًا جماعيًا، ما دفعه إلى تبني موقف داعم للقيادة الدينية المسيحية المحلية.
ويرى الأب ديميتري أن وجود حداد، الذي قاتل لسنوات إلى جانب الثوار السنة، أسهم في ترميم الجسور بين المسيحيين والنظام الجديد.
وفي مدينة اللاذقية المختلطة تاريخيًا، ظهرت أنماط جديدة من التعايش؛ حيث شكّل الناشط السني علي حمادة، المؤيد لهيئة تحرير الشام، فرقة حراسة مشتركة من السنة والمسيحيين لحماية الكنائس خلال الأعياد. وعززت هذه المبادرات الثقة بين الطرفين، رغم السياق الديني المحافظ.
ويرفض الناشط المسيحي طوني دانيال، المعتقل السابق في سجون الأسد، فكرة أن الإسلاميين يشكلون خطرًا منهجيًا، معتبرًا أن النظام السابق ضخّم هذا التهديد. لكنه حذر من ضعف الحريات في الدستور الجديد، وتصرفات بعض الميليشيات المتشددة.
تفشي الجريمة الصغيرة وغياب الشفافية وتهميش المنظمات المسيحية عمق الفجوة بين الدولة والمجتمع المسيحي في تلك المناطق
في المقابل تعاني بلدات مثل مشتى الحلو ووادي العيون من عزلة متزايدة، ما أدى إلى مشاعر ريبة متبادلة تجاه السلطة الجديدة. ويقول كاهن محلي “إذا طُبقت الشريعة، سنُضطهد فورًا.” هذه المخاوف تعززها صلات الرئيس الشرع السابقة بتنظيم القاعدة، رغم رفضه الالتحاق بداعش.
ويقول الباحث جريجوري ووترز في تقرير نشره المجلس الأطلسي إن تفشي الجريمة الصغيرة وغياب الشفافية وتهميش المنظمات المسيحية عمق الفجوة بين الدولة والمجتمع المسيحي في تلك المناطق.
ورغم تراجع وتيرة العنف لم تختفِ التهديدات الفردية؛ فقد أُطلقت النار على كنيسة في حماة، وأُحرقت شجرة عيد الميلاد في السقيلبية، كما تعرضت قبور مسيحية للتخريب. لكن تفجير مار إلياس شكل نقطة تحول حقيقية، أدت إلى انخفاض كبير في أعداد الحضور في القداديس، حتى في بلدات متصالحة نسبيًا مع السلطة.
وفي محافظة إدلب يبرز نموذج مختلف تمامًا. ومنذ عام 2018 بدأت “حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام بإعادة الممتلكات للمسيحيين تدريجيًا، وأصدر الشيخ عبدالرحمن عطون فتوى تسمح بإقامة الشعائر الدينية علنًا.
ورغم أن قرية يعقوبية لا تزال تعاني من احتلال بعض المنازل من قبل مقاتلين أويغور تابعين للحزب الإسلامي التركستاني، إلا أن أغلب القرى تشهد تحسنًا أمنيًا ملحوظًا. وقال عدد من المسيحيين المحليين إنهم يثقون بقوات الأمن، رغم حوادث التحرش الفردية من المقاتلين الأجانب.
ويخلص ووترز إلى أن التجربة المسيحية في سوريا اليوم ليست موحدة. ففي حين يعمل بعض رجال الدين في اللاذقية والسقيلبية كوسطاء بين الطوائف، يشعر آخرون في مشتى الحلو أو طرطوس بالخذلان الكامل.
وتُظهر الوقائع أن الحكومة الإسلامية الجديدة لا تستهدف المسيحيين بشكل ممنهج، لكن المسار نحو الثقة والاندماج لا يزال طويلاً ومعقدًا. ومثّل الدستور السوري الجديد، الذي أُقرّ بعد سقوط نظام الأسد وصعود الرئيس أحمد الشرع، محطة مفصلية في إعادة تعريف الهوية السياسية والدينية للدولة.
الوثيقة الدستورية تجنّبت استخدام أي صياغات صريحة تضمن حقوق الأقليات الدينية، وعلى رأسها المجتمع المسيحي الذي شكّل تاريخيا أحد أركان النسيج السوري المتنوع
ورغم ما ورد فيه من بنود تُشير إلى حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، إلا أن الوثيقة الدستورية تجنّبت استخدام أي صياغات صريحة تضمن حقوق الأقليات الدينية، وعلى رأسها المجتمع المسيحي الذي شكّل تاريخيا أحد أركان النسيج السوري المتنوع.
وفي النصوص العامة وردت عبارات مثل “تكفل الدولة حرية العقيدة،” و”يحظر التمييز على أساس الدين،” لكن دون أن يترجم ذلك إلى آليات تنفيذية أو ضمانات قانونية ملزمة.
والأسوأ من ذلك أن الوثيقة أبرزت في أكثر من مادة مسألة “الهوية الإسلامية للدولة”، وأدرجت الشريعة الإسلامية كـ”مصدر تشريعي رئيسي”، ما فتح الباب أمام تفسيرات قد تؤدي إلى تقييد الحريات المدنية لغير المسلمين، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية وحرية التعبير والتعليم والعمل العام.
وبينما رُفض إدراج أي إشارة مباشرة إلى المسيحية كمكوّن وطني تاريخي، رُكّز بدلاً من ذلك على مفاهيم فضفاضة مثل “وحدة الأمة” و”التراث الروحي”، والتي تُرضي القاعدة الإسلامية الداعمة للحكومة الجديدة دون أن توفر شعورًا بالأمان القانوني أو الرمزي للمسيحيين.
وأثار هذا الغموض الدستوري موجة قلق عميقة في أوساط القيادات الدينية المسيحية. بعضهم عبّر عن ذلك صراحة، معتبرًا أن الدولة تنتهج نهجًا براغماتيًا لإرضاء القاعدة الشعبية الإسلامية، حتى على حساب مبدأ المساواة، فيما ذهب آخرون إلى التحذير من أن تجاهل الحقوق الواضحة للأقليات في الدستور قد يُمهد، عاجلاً أو آجلاً، لتراجع فعلي في الحقوق المدنية، أو حتى لعودة نماذج التمييز غير المباشر كما حصل في بعض التجارب المجاورة.
وقد حاولت بعض الشخصيات المسيحية المقربة من دوائر الحكم التأثير على الصياغة الأولية للدستور، إلا أن المسودة النهائية عكست توازنات القوى في البلاد، حيث تُهيمن تيارات دينية سنية محافظة على المشهد التشريعي والمؤسساتي. كما فشلت المقترحات الداعية إلى تأسيس هيئة وطنية لحماية حقوق الأقليات في الحصول على دعم كافٍ داخل البرلمان.
أما من زاوية القانون الدولي فإن هذا الدستور لا يتوافق بالكامل مع الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها سوريا سابقًا، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على حرية الدين والمعتقد والمساواة الكاملة أمام القانون.
وفي ضوء هذه المعطيات يشعر الكثير من المسيحيين بأنهم أصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية بحكم القانون، لا بفعل ممارسات فردية أو مواقف متطرفة، وهو ما يهدد بترسيخ شعور دائم بالهشاشة وعدم الانتماء، وقد يدفع المزيد من العائلات المسيحية إلى خيار الهجرة كحل دائم، بدلًا من البقاء في وطن لا يعترف قانونيًا بمكانتهم التاريخية.