العلمانية
الصوفية في سوريا: الاعتدال في مواجهة التطرّف

المدن

الإثنين 4 آب 2025

في سردية سورية حديثة نسبياً، لا تزال تتردد أصداؤها في ذاكرة كثيرين، تُعيد تجربة الطفولة إنتاج ألماً جماعياً خفياً: يُستثنى التلميذ من حصة "التربية الدينية" لمجرد انتمائه إلى طائفة مختلفة، غالباً من دون أن يكون مدركاً لما يعنيه ذلك الانتماء. يُطلب إليه مغادرة الصف، فيجلس وحيداً في باحة المدرسة، متأمّلاً ــ ببراءة طفلٍ صغيرــ سؤالاً وجودياً بحجم العالم: "لماذا أنا بالخارج؟"
 
وغالبًا ما تأتيه الإجابة، مبهمة ومربكة، لا توازي حجم التساؤل: "لأنك من ديانة أُخرى".
 
لم تكن الطائفية، في ظاهر المشهد السوري، حاضرة بوضوح على السطح، لكنها كانت تُزرع بصمت كقنبلة موقوتة، يُراد لها أن تنفجر في الزمن المناسب. فمنذ عقود، تبنّى النظام البعثي ــ وتحديداً في نسخته الأسدية ــ ما عُرف بـ"لعبة الأقليات"، محوّلاً التنوع الديني والعرقي في البلاد إلى أداة سياسية.
 
أُوكل للطائفة العلوية موقع الهيمنة في الدولة، رغم أنها لا تمثل سوى أقل من 10% من السكان، في بلد غنيّ بالأقليات والمكوّنات المختلفة. لم يكن ذلك صدفة، بل جزءاً من هندسة دقيقة للسلطة، تستند إلى مبدأ: فرّق، ثمّ احكم.
 
يتكوّن النسيج السكاني في سوريا من طيف واسع من المكوّنات العرقية والدينية. إلى جانب الغالبية من المسلمين العرب السنّة الذين يشكّلون نحو 75% من السكان، تضم البلاد أقليات متنوّعة، من أبرزها: الأكراد، والمسيحيون بمختلف طوائفهم، والدروز، والإسماعيليون، والشركس، والتركمان،. كما توجد مجموعات أصغر من الآشوريين والكلدان، ما يضيف مزيداً من التعدد الثقافي والتاريخي إلى المشهد السوري.
 
رحل النظام، لكن الإرث الذي خلّفه لم يرحل. ما أسّس له طوال عقود تكرّس فعلاً على الأرض، حتى بات السوريون اليوم يعيشون في ظل تكتلات طائفية تشطر المجتمع وتعيد تشكيل الجغرافيا والانتماء.
 
العلويون ينزحون من دمشق بعد مجازر الساحل، ويتقوقعون على أنفسهم في مناطق أكثر تجانساً. الدروز يتحصّنون في مدنهم، تحت حصار خانق وظروف أمنية واقتصادية قاسية.
 
الروابط الاجتماعية تنهار، صداقات تتفكك، والثقة الوطنية تتآكل، فيما البلاد تنزلق أكثر فأكثر في مستنقع الطائفية، إلى حدّ يشعر فيه البعض أنهم أمام شعب مجروح، مرتبك، مشبع بالخوف ومشحون بالغضب.
 
خلاف سني -سني 
 
في إعلان رسمي أصدره الرئيس السوري أحمد الشرع، تم تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للجمهورية السورية. الرفاعي، وهو عالم وداعية دمشقي بارز، يُعد من الشخصيات الدينية التي واجهت النظام السابق بوضوح؛ فقد تعرّض للاعتداء مرتين من قبل الأجهزة الأمنية، وعارض كلاً من حافظ الأسد وابنه بشار، قبل أن يُنفى خارج البلاد.
 
يحظى الشيخ الرفاعي بمكانة مرجعية لدى قطاعات واسعة من الثوار السوريين، ويتبع في منهجه التيار الصوفي، المعروف باعتداله وتأصيله الفقهي.
 
غير أن الواقع شهد تصاعد خلافات داخلية ذات طابع ديني، تحديداً بين تيارات سنّية مختلفة. فقد أُثير جدل واسع بعد استدعاء أحد المشايخ المعروفين بتدريس كتاب "المعرفة" للشيخ عبد الكريم الرفاعي، وهو أحد أبرز المؤلفات التي تلخّص تجربة التصوّف والمدرسة الأشعرية في الإسلام السني. وبحسب ما أفاد الشيخ عبد القادر الحسين ــ وهو عالم سوري سنّي ظهر في عدة مقاطع مصوّرة ــ طُلب من المدرّس إيقاف الدرس الديني دون مبررات واضحة.
 
وأشار الحسين في تصريحاته إلى حوادث مشابهة، من بينها الاعتداء على مجلس ذِكر في مدينة حماة بحجّة أنه لا يتبع النهج الوهابي، وكذلك مقتل خطيب مسجد في المدينة للسبب ذاته، وفقاً لما أورده.
 
واعتبر الحسين أن هذه الممارسات تُعيد إلى الأذهان أساليب "الأمن العسكري" في عهد النظام السابق، في استحضار مباشر لذاكرة القمع الديني والأمني.
 
الشيخ عبد القادر الحسين قال: "أنتم تعلمون، ونحن نعلم أن التيار الوهابي محدود الانتشار في البلاد، تمامًا كما هو الحال مع طوائف مثل الدروز والعلويين. فإذا كان التعامل معنا سيُبنى على هذا الأساس، فنحن ــ للأسف ــ لم نغادر بعد عقلية حكم الأقليات. تتحدثون عن المدرسة الشامية، لكنها لم تكن يوماً مدرسة وهابية، بل ظل التصوّف هو التيار السائد، بالأعداد والامتداد. الوهابية، في الشام، كانت دائمًا الاستثناء لا القاعدة. يمكننا أن نُزوّر التاريخ، لكننا لا نستطيع أن نُغيّره".
 
وجاءت هذه التصريحات في سياق ردّه على ما اعتبره تضييقاً ممنهجاً ضد التيارات الصوفية والأشعرية، ورفضاً ضمنياً لفرض نموذج ديني أحادي يتعارض مع تراث المشرق السنّي، كما عبّر.
 
خلاف سنّي ــ سنّي يتصاعد في سوريا الجديدة، على خلفية ما يعتبره بعض العلماء تمددًا غير متوازن للفكر الوهابي في المجال الديني العام.
 
ففي تسجيل مصوّر، حذّر الشيخ عبد القادر الحسين من التوزيع المجاني للكتب الوهابية في شوارع المدن السورية، ومن دعوات متزايدة لفرض النقاب، معتبراً أن ذلك "لعب بالنار"، ولا يعكس مسار الثورة ولا روحها، "منذ انطلاق الثورة وحتى لحظة انتصارها، لم تكن الوهابية جزءاً من مطالبنا ولا من تمثيلنا الديني".
 
ويشير الحسين إلى أن جوهر المشكلة يكمن في الصبغة السلفية التي باتت تطغى على الفصائل المسلحة، موضحًا أن "القيادة آلت إلى من يتبنون توجهات سلفية".
 
وانتقد بشدة حادثة قص شوارب عدد من رجال مدينة السويداء، معتبراً ذلك سلوكاً فوضوياً يشجع على الانفلات، ويمثّل تعدياً حتى على أبناء الطائفة السنّية أنفسهم، من خلال فرض نمط عقدي يتناقض مع الإرث الصوفي والأشعري لبلاد الشام.
 
وفي لهجة تصعيدية، قال الحسين إن "وزير الأوقاف وسائر المسؤولين الدينيين أعلنوا أن أهل السنّة هم الأشاعرة والمرتدية وأهل الأحاديث"، منتقداً ما وصفه بالمعنى الفضفاض والمطّاط لأهل الأحاديث الذي "يشمل المبتدع والسني معاً.
 
وأضاف: "صمتنا عن هذا التصنيف، لكننا لن نصمت عن التهجم على من يدرّس منهجاً غير المنهج الوهابي".
 
وختم كلمته بالتأكيد على أنه لن يسكت، لا في ظل النظام السابق ولا الحالي، قائلاً: "القرآن يأمرنا بالعقلانية والحكم العادل، ونحن لن نساوم على ذلك".
 
تصريحات الشيخ عبد القادر الحسين وجدت صدى لدى مرجع ديني بارز تحدّث إلى موقع "المدن"، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه.
 
رجل الدين، الذي سبق أن عارض نظام بشار الأسد، حذّر من مؤشرات مقلقة على الأرض، وصفها بأنها "تحوّلات تنحو نحو الوهابية، قد تكون فردية في ظاهرها، لكن تغاضي السلطات عنها يضفي عليها طابعًا منهجيًا مقلقاً".
 
وأكد أن "أغلبية السنّة في سوريا تاريخياً يتبعون المدرسة الأشعرية"، وأن ما يجري على الأرض من فرضٍ لخطابات دينية متشددة قد يُفضي إلى فتنة داخل الطائفة السنّية نفسها، في سابقة لم تعرفها البلاد من قبل.
 
 
على الارض 
 
في بلدة عدرا العمالية بريف دمشق، سادت حالة من القلق بين الأهالي عقب تغيير مفاجئ لخطيب جامع البلدة، بحسب ما أكده عدد من السكان لـ"المدن"، وهو ما انعكس مباشرة على التفاعل مع الدروس الدينية، حيث امتنع العديد من أولياء الأمور عن إرسال أطفالهم إليها.
 
تقول أم محمد، وهي سيدة من محافظة إدلب تقيم في عدرا العمالية منذ عشر سنوات: "كان ابني الكبير يرتاد دروس الدين في الجامع بانتظام. لكن بعد شهرين فقط بدأت ألاحظ عليه تغيرات مقلقة: شرود ذهني طويل، عصبية مفاجئة، وتحوّل في المظهر ــ حلق الشارب، إطلاق اللحية، وتغيير واضح في اللباس. شعرت بالخوف، وبدأت أتساءل عما يُدرّس له داخل المسجد".
 
وتضيف: "طلبت منه أن يُدرّس أخاه الأصغر الدين بحجة صغر سنه، فوافق، لكنه اشترط أن يتم الأمر في غرفة مغلقة. هناك، بدأت أسمع أحاديث لا تمتّ للدين المعتدل بصلة: جهاد، تكفير، وأسلوب مطابق للطرح الوهابي".
 
من جهته، يروي سمير، وهو من سكان دوما ويعيش فيها منذ 35 عاماً، تجربته لـ"المدن": "كنت أحرص على حضور خطبة الجمعة في الجامع بشكل دائم، وكان الشيخ السابق يتمتع بقبول واسع. لكننا فوجئنا بتغييره دون توضيح، ورغم مطالبات كثيرة من الأهالي، رفضت وزارة الأوقاف إعادته. من حينها، بدأنا نلحظ تغييراً واضحًا في محتوى الخطب، التي أصبحت تمهّد تدريجياً لنشر الخطاب الوهابي في المنطقة".
 
ويؤكد سمير أن كثيراً من الأهالي يتحدثون عن هذا التحوّل بشكل غير معلن: "لا أحد يجرؤ على الاعتراض العلني. الخوف من الاعتقال بتهمة الإساءة للدين كبير، خصوصاً مع تزايد مشاهد المسلحين في بعض الجوامع، لا سيما يوم الخميس في الأرياف، حيث تُغلق الطرق أحياناً من قبل مجموعات منفلتة عن القانون".
 
حاله في ذلك حال مواطنته سميرة، وهي من سكان حي المزة في دمشق، تروي بدورها حادثة أثارت ذعرها: "تفاجأت بأن ابنتي، البالغة من العمر 18 عاماً، قررت فجأة ارتداء النقاب. لم يكن هذا جزءاً من تربيتنا، فنحن من أهل السنة المعتدلين. لكن الأغرب أن سلوكها وطريقة حديثها تبدّلت أيضاً. بعد الاستفسار، علمت أنها حصلت على كتب وُزّعت مجانًا في أحد الشوارع، تتضمن فكراً وهابياً متشدّداً".
 
 
من التاريخ
 
في خضم الجدل المتصاعد حول المرجعيات الدينية في سوريا، تبرز ثلاث مدارس كبرى داخل الطيف السنّي: السلفية الوهابية، والتصوف، والأشعرية ــ ولكل منها جذور تاريخية ورؤية عقدية مختلفة.
 
تُعرف الوهابية، أو ما يُسمى "الدعوة النجدية"، بأنها حركة سلفية سنية نشأت في منطقة نجد وسط الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر، على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في تحالف سياسي ــ ديني مع الأمير محمد بن سعود.
 
هدفت هذه الدعوة إلى "تطهير" الإسلام من ما تراه بدعاً وخرافات، والدعوة إلى العودة الصارمة إلى أصول الدين كما كانت في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وارتكزت في خطابها على رفض التأويل والوساطة، مع تركيز على ظاهر النصوص.
 
في المقابل، يرى العديد من المتصوفة أن التصوف ليس طارئاً على الإسلام، بل يمتد بجذوره إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ــ وفقًا لتقاليد الطرق الصوفية ــ كان يلقّن أصحابه أذكاراً وأوراداً خاصة.
 
أما المدرسة الأشعرية، فهي واحدة من أبرز المدارس الكلامية السنية، أسسها الإمام أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري. وتتبنى هذه المدرسة الجمع بين النقل (الكتاب والسنّة) والعقل في إثبات العقائد وتفسير النصوص، ما جعلها تُوصف بـ"الوسطية" بين العقلانيين والنصّيين، ومرجعية راسخة لأغلب علماء المشرق الإسلامي، خصوصاً في بلاد الشام والمغرب.
 
ويُعدّ كل من التصوف والأشعرية من المكوّنات الأساسية للهوية السنّية التقليدية في سوريا، في مقابل الحضور المحدود تاريخياً للتيارات السلفية الوهابية.
 
 
المدرسة الماتريدية:
 
الماتريدية هي مدرسة كلامية سنية تأسست على يد الإمام أبي منصور الماتريدي في القرن الرابع الهجري، وتُعد مع الأشعرية من المدارس الكبرى في الفكر العقدي السنّي، إلى جانب المدرسة الأثرية.
 
تؤكد الماتريدية على استخدام العقل والأدلة المنطقية في فهم العقيدة، مع التزام دقيق بالنقل من الكتاب والسنّة.
 
تمثل المدرسة العقدية الأساسية لدى الحنفية، وتنتشر بشكل خاص في آسيا الوسطى، وتركيا، والهند، وأفغانستان.
 
تسعى الماتريدية إلى التوفيق بين الإيمان العقلي والنصوص النقلية، وهو ما يجعلها قريبة في منهجها من الأشعرية، مع بعض الاختلافات الدقيقة في التفاصيل العقدية.
 
تُشكّل الأشعرية والماتريدية معاً عمود الاعتدال العقدي في الإسلام السنّي التقليدي، وهما جزء لا يتجزأ من هوية دينية واجتماعية عريقة في المشرق الإسلامي.
 
وفي مواجهة التيارات المتشددة التي تميل إلى الحرفية أو العنف العقدي، تُعيد هاتان المدرستان التذكير بتراث فكري عقلاني متوازن، لطالما كان جزءاً من شخصية المجتمعات الإسلامية المتنوّرة.