العلمانية
البدو في حمأة التوتر الطائفي: بين السويداء ومزارات العلويين

بثينة عوض

الإثنين 28 تموز 2025

في ربيع أحد أعوام سبعينيات القرن الماضي، كسر سكون القرية الجبلية الواقعة في جبال العلويين قدوم قافلة من شاحنات "البيك أب" الصدئة، محمّلة بالمواشي، ويقودها بدو رُحّل احترفوا تربية الأغنام، يتنقّلون في الأودية والتلال بحثاً عن الكلأ والماء.
 
لم يكن المشهد غريباً تماماً عن أهالي القرية؛ فقد اعتادوا بين الحين والآخر هذا الطقس الموسمي. تتوقف الشاحنات، ويترجّل منها رجال بملابس البدو التقليدية، برفقة نسائهم وأطفالهم، ثم تُنصب بيوت الشَّعر على أطراف الأراضي الخضراء العائدة للقرية.
 
كان كبيرهم يُعرف بأبي صالح، رجل تربطه بالقرية علاقة طويلة من المودة والمعرفة، في اندماج بدا للوهلة الأولى غريباً بين الطابعين القروي والبدوي، لكنه مع الوقت تحوّل إلى جزء من دورة الحياة في المكان.
 
تنتشر رائحة القهوة المُرّة في الأرجاء، وتزدهر تجارة الألبان، والأجبان، والزبدة، التي تحملها النساء لاحقاً إلى المدينة للبيع. وفي المراعي، تفرد الأغنام خيوطها البيضاء فوق السفوح، في انتظار موعد الرحيل.
 
لم يكن المكوث يخلو من التوتر أحياناً، خصوصاً حين تتسبّب الأغنام بتخريب بعض المحاصيل الزراعية، ما يثير امتعاض بعض السكان. لكن حكمة وجهاء القرية كانت دائمًا حاضرة، فتتدخّل لتهدئة النفوس ومنع الخصام.
 
ثم يرحل أبو صالح وعشيرته، تاركين وراءهم مشهداً لم يكن استثناءً، بل فصلاً قابلاً للتكرار في قادمات الأيام.
 
كأن قدوم البدو إلى قرى اللاذقية بات طقساً موسمياً مألوفاً، امتزج بالعادات المحلية حتى تجاوز حدود التعايش إلى المصاهرة. ففي إحدى المرات، تطوّرت علاقة بين شاب من أبناء القرية وإحدى فتيات البدو، لتتحوّل إلى مشروع زواج لم يلبث أن أشعل توتراً حاداً.
 
لم يكن الصدام حول الحب وحده، بل انفتح الجرح الأكبر: الطائفة أولاً، ثم المهر، الليرات الذهبية التي فُرضت كمقدم ومؤخر لقبول الزواج. تصاعدت التوترات سريعاً، وانتهى الأمر إلى اشتباك مسلح، كانت نتيجته أن انقطعت أقدام البدو عن أرض القرية إلى أجل غير مسمّى.
 
رحلت الخيام، وجفّت منابع الحليب، وخلَت المراعي من خطوات القادمين.
 
لم يبقَ سوى فراغ أخضر، تحرسه قصة حب لم تكتمل، كما في السرديات الشعبية المتوارثة، تلك التي تبدأ باللقاء، وتنتهي بالفقد.
 
العودة
 
سردية قديمة تعود اليوم بروائح مختلفة؛ لم تعد تفوح منها رائحة الترحال والمصاهرة، بل رائحة الانتقام والكراهية. ما كان يُفعل بالتراضي أو بالأعراف في أيام النظام السابق، يُفرض اليوم بالقوّة.
 
الموكب نفسه، لكن الوجوه تغيّرت. يخترق القرية الواقعة في ريف القرداحة، المدينة التي خرج منها حافظ الأسد، ويتجه نحو أرضٍ تقع عليها أحد أقدس المزارات لدى أبناء الطائفة العلوية: مزار الأربعين، الذي يتمتع بمكانة روحية رفيعة جعلته محجّاً شهرياً لزوجة الرئيس السابق، أنيسة مخلوف، وزاره نجلها باسل الأسد في أكثر من مناسبة.
 
ما بدا في الماضي تقاطعاً بين الريف والدين والسياسة، يتحوّل اليوم إلى استحواذ بالقوة على الرمزية والمكان... وسط صمت لم تعتده ذاكرة القرية.
 
خطوة وُصفت بالاستفزازية من قِبل مشايخ الطائفة، خصوصاً بعد أن قام البدو الرحّل، القادمون من ريف حماة، بربط أغنامهم قرب مزار ديني آخر ذي رمزية روحية عالية. رفض الرعاة الامتثال لمطالب المشايخ بالرحيل نحو مراعي أبعد، ورفضوا أي تدخل ديني أو اجتماعي في تحركاتهم.
 
أمام هذا التعنّت، شكّل المشايخ وفداً رسمياً، توجّه إلى عناصر "الهيئة" المنتشرين في مدينة القرداحة، طالبين تدخّلاً مباشراً. وبعد جدال مطوّل، صدر قرار بترحيل البدو من كامل أرياف المنطقة، في سياق أمني لا يخلو من التوتر.
 
وكانت تلك الأرياف قد شهدت في الفترة الأخيرة مجازر دامية، أُعلن عن نتائج لجنة التحقيق الخاصة بها من دون أن تُذكر أسماء المتورطين أو الضحايا، في ما وُصف حينها بمحاولة لاحتواء الغضب الشعبي. لكن ما زاد من فداحة المشهد هو التباين الصارخ بين الصمت الرسمي، والوقائع على الأرض، خصوصاً مع تداول صور لمجاهدين تورّطوا في مذابح الساحل، وهم يرتكبون الأفعال ذاتها لاحقاً في محافظة السويداء.
 
العشائر 
 
تصعيد جديد تزامن مع عودة العشائر البدوية إلى الواجهة، هذه المرة بصورة موالية للنظام، ومحاولة التمدّد نحو محافظة السويداء. غير أن هذه المحاولة انتهت بمشهد مأساوي آخر، تمثّل في ترحيلهم من أراضيهم، في ما يبدو أنه مؤشر واضح على تغيير ديموغرافي حقيقي.
 
فالبدو، رغم كونهم مواطنين أصيلين من أبناء المحافظات السورية، وجدوا أنفسهم اليوم في موقع الاستبعاد القسري. الخلافات التاريخية بينهم وبين مكوّنات درزية في السويداء ليست جديدة، وقد شهدت عقود ماضية صدامات متقطعة، لكنها لم تصل يومًا إلى مستوى التهجير الجماعي، أو اشتراط ترحيلهم من منازلهم كأحد بنود وقف إطلاق النار، كما يحدث الآن.
 
التحوّل في طبيعة العلاقة بين الطرفين، من نزاعات محلية إلى شروط سياسية وأمنية متشددة، يعكس تغيراً عميقاً في بنية الصراع، ويفتح الباب على أسئلة جدّية حول مستقبل التوازنات الاجتماعية والديموغرافية في جنوب سوريا.
 
يعيش بدو سوريا اليوم مرحلة جديدة من التغيّر القسري بعد ما يُسمّى بـ"التحرير"، لكنّها مرحلة مشوبة بالخسارة والانكسار أكثر من أي وقت مضى. فقد قضت سنوات الحرب على الجزء الأكبر من قطعان مواشيهم، وأفقدتهم القدرة على التنقّل الموسمي الذي يشكّل عصب حياتهم التقليدية، بسبب تغيّر خرائط السيطرة العسكرية، وتعرّض قطعانهم للنهب أو القتل، سواء على يد الفصائل المسلحة أو الميليشيات المختلفة.
 
تحوّل كثير من أبناء البادية من رعاة إلى تجّار أغنام في الشمال السوري، بعد أن تراجعت قدرتهم على الامتلاك والرعي. ومن كان يملك مئات، بل آلاف رؤوس الغنم من سلالة العواس الشهيرة في سوريا، بات اليوم يمتلك في أفضل الأحوال نحو مئة رأس فقط.
 
في الثقافة البدوية، لم يكن بيع الأغنام أمراً محموداً؛ بل كان يُنظر إلى كثرة القطيع كرمز للفخر والمكانة الاجتماعية. ومن قوانين البدو المتوارثة، أنه لا يجوز تعليق جرس في القطيع إلا إذا تجاوز عدده الألف رأس. اليوم، هذا التقليد بالكاد يجد من يُطبّقه.
 
يُقسَّم بدو سوريا تقليدياً إلى رُحّل ومستقرّين، وكان عددهم قبل اندلاع الثورة يُقدَّر بحوالى 500 ألف نسمة، يشكّلون شريحة واسعة ومتنقلة من النسيج السوري. لكن بعد الحرب، تراجع هذا العدد إلى بضعة آلاف فقط، معظمهم استقر في مناطق الشمال، وتحديداً في إدلب وأرياف حلب والرقة والحسكة، الخاضعة لسيطرة الثوار، مع احتفاظهم ـ بقدر ما تسمح به الظروف ـ بعاداتهم وتقاليدهم وهويتهم الجماعية.
 
الجدير بالذكر أن مكانة البدو في الحياة السياسية السورية لم تكن هامشية دائماً؛ ففي عام 1943 خُصّص لهم عشرة مقاعد في البرلمان السوري من أصل 135، في اعتراف رسمي بأهميتهم ككتلة اجتماعية واقتصادية وازنة. لكن هذه المكانة تآكلت تدريجياً في العقود التالية، مع تراجع الثقل السياسي للبادية، وتهميشها في السياسات المركزية.
 
 
المصدر: المدن