التنوع الديني.. مزيج حساس يربك وحدة سوريا
العرب اللندنية
الجمعة 18 تموز 2025
اللغة الجامعة لا تكفي ما لم تُترجم إلى هيكل دستوري يضمن حقوق الجميع، ويقدّم نموذجًا للحكم يتجاوز مركزية القرار.
تواجه طموحات الرئيس السوري أحمد الشرع في إعادة توحيد البلاد تحت سلطة مركزية تقودها حكومة ذات توجه إسلامي تحديات مركبة، تتجاوز العقبات السياسية والعسكرية لتصطدم ببنية اجتماعية وديموغرافية عميقة التشظي.
وجعل المزيج الطائفي والعرقي الذي تشكّل على مدى عقود، وتعزز في سنوات الحرب، من سوريا كيانًا هشًا لا يكفي الانتصار العسكري أو السيطرة الجغرافية لتوحيده. ويُنظر إلى الرئيس الشرع بوصفه ممثلًا لغالبية سنية طالما شعرت بالتهميش في عهد عائلة الأسد، لكن المفارقة أن هذه الغالبية نفسها لم تعد وحدة متماسكة بعد أن تفرقت بين فصائل متشددة، ومعارضة مدنية، وجيوب محلية ذات مصالح متباينة.
وبينما يحمل مشروع الشرع ملامح إسلامية، فإن الإسلام السياسي في سوريا لا يجمع السنة تحت مظلة واحدة، بل يثير مخاوف لدى قطاعات واسعة منهم، ناهيك عن الطوائف الأخرى التي تنظر بعين الارتياب إلى أي سلطة تحمل طابعًا دينيًا. وتركت التجربة الطويلة مع الأنظمة الشمولية، ثم الفوضى المسلحة التي غذّاها التشدد، في الوعي العام ميلًا إلى الحذر من أي خطاب يعيد إنتاج الإقصاء باسم الأغلبية.
ويجد العلويون، الذين تركزت السلطة في أيديهم لعقود بفضل النظام السابق، أنفسهم اليوم في موقع هش، محاطين بمخاوف وجودية. فالصعود السياسي لطرف إسلامي، حتى وإن أعلن التزامه بالدولة الوطنية، لا يُطمئن طائفة ارتبط بقاؤها السياسي تاريخيًا بمؤسسات القوة والجيش والمخابرات.
طوائف
أعادت الحوادث الدموية التي تعرض لها علويون في الساحل خلال الأشهر الماضية، على يد فصائل سنية مسلحة، إحياء الذاكرة الطائفية الجريحة، مما يجعل المصالحة معهم أكثر تعقيدًا من مجرد تطمينات خطابية. وأما الدروز، فهم طائفة صغيرة نسبيًا لكنها مؤثرة بحكم موقعها الجغرافي وتنظيمها الاجتماعي ويتعاملون مع السلطة الجديدة بحذر محسوب، دون عداء معلن أو ولاء واضح.
وتجنّبوا الانخراط المباشر في الحرب طوال السنوات الماضية، وتمسكوا قدر الإمكان بموقف الحياد، لكنهم أبدوا استعدادًا للدفاع عن خصوصيتهم وهويتهم إذا شعروا بأي تهديد. ومن السويداء إلى جرمانا، تتكرر مشاهد الاحتجاج والمواجهات المحدودة، وكأنهم يقولون بصوت منخفض إنهم لن يقبلوا بأن يكونوا ضحية لمعادلات القوة الجديدة.
والدروز عرب يمارسون طقوسا دينية مشتقة من الإسلام، ويُحافظون على درجة من السرية في ممارسة شعائرهم الدينية، التي نشأت في القرن الحادي عشر، وتضم تعاليم من الإسلام وفلسفات أخرى، ويركزون على التوحيد والتناسخ والسعي وراء الحقيقة.
ووصفهم الرئيس الشرع بأنهم جزء من النسيج السوري وتعهد بحماية حقوقهم في خطاب ألقاه أمس الخميس. ويتركز دروز سوريا في الجنوب الغربي بمحافظة السويداء المحاذية للأردن، وفي مناطق من محافظة القنيطرة، قرب الجولان المحتل. ويقيمون كذلك في ضاحية جرمانا بدمشق.
وفي إسرائيل، يتركز الدروز أساسا في الشمال والجولان المحتل. وفي لبنان، يتركزون في المناطق الجبلية، بما في ذلك الشوف وعاليه، وفي مناطق أخرى مثل قضاء حاصبيا في الجنوب اللبناني. ورغم كونهم أقلية صغيرة، فإن الدروز لعبوا في الكثير من الأحيان دورا كبيرا في سياسات البلدان التي يعيشون فيها.
ويبلغ عدد الدروز في إسرائيل 150 ألفا. وعلى عكس المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، يخدم الكثير من الدروز في الجيش والشرطة الإسرائيليين، بما في ذلك أثناء حرب غزة. ووصل بعضهم إلى رتب عالية، مما يعني أنه لا يمكن للقيادة السياسية الإسرائيلية تجاهل أصواتهم بسهولة.
وفي حين أن معظم الدروز في إسرائيل يعدون أنفسهم مواطنين إسرائيليين، فإن أكثر من 20 ألف شخص يعيشون في الجولان المحتل ما زالوا يعتبرون أنفسهم سوريين ولديهم روابط وثيقة مع عائلاتهم على الجانب الآخر من الحدود. وفي مواجهة دعوات من الدروز الإسرائيليين لمساعدة بني طائفتهم السوريين، ساق القادة الإسرائيليون حمايتهم سببا لمهاجمة سوريا مرارا هذا العام.
ويُقدَّر عدد الدروز في سوريا بنحو مليون نسمة. ونظموا احتجاجات مناهضة لبشار الأسد بعد اندلاع الحرب عام 2011، لكن لم يكن هناك صراع يُذكر بينهم وبين دمشق التي ركّزت جهودها على قمع الانتفاضة في المناطق ذات الأغلبية السنية. ومنذ الإطاحة بالأسد في ديسمبر ، أشعل الاحتكاك مع السلطات التي يقودها الإسلاميون القتال مرات عدة.
وفي حين حث بعض زعماء الدروز على التسوية مع دمشق، جاهر آخرون بمناوأة الشرع، ولاسيما الشيخ حكمت الهجري، الذي حث على مقاومة القوات الحكومية ووجه مناشدات لزعماء العالم، وبينهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال أعمال العنف هذا الأسبوع.
وتنتقد شخصيات درزية هذا النهج. ورفض وليد جنبلاط، أحد أبرز الساسة الدروز في المنطقة، فكرة أن إسرائيل تحمي دروز سوريا. وحذر من دعوات الحماية الدولية، ودعا إلى الوحدة الوطنية السورية. وقصفت إسرائيل سوريا مرارا عندما كان بشار الأسد في السلطة، سعيا إلى صد نفوذ إيران والجماعات المدعومة من طهران والتي انتشرت هناك لمساعدة الأسد في محاربة المعارضة المسلحة.
ووصفت إسرائيل الحكومة السورية الجديدة بأنها تهديد “جهادي”، مؤكدة أنها لن تسمح لها بنشر قوات في جنوب سوريا. وأكدت إسرائيل رغبتها في تجنب أي حشد عسكري معاد على حدودها، مع تعهدها بحماية الأقلية الدرزية. كما سيطرت القوات الإسرائيلية على أراض سورية مجاورة لهضبة الجولان المحتلة منذ ديسمبر.
تطمينات
قال الشرع في كلمة بثها التلفزيون أمس الخميس “الكيان الإسرائيلي الذي عودنا دائما على استهداف استقرارنا وخلق الفتن بيننا منذ إسقاط النظام البائد، يسعى الآن مجددا إلى تحويل أرضنا الطاهرة إلى ساحة فوضى غير منتهية، يسعى من خلالها إلى تفكيك وحدة شعبنا وإضعاف قدراتنا على المضي قدما في مسيرة إعادة البناء والنهوض.”
وأما الوجود الكردي فهو يفرض نفسه كأكبر تحدٍّ بنيوي أمام مشروع الشرع. فالأكراد لا يطالبون فقط بالاعتراف الثقافي أو السياسي، بل يملكون بالفعل كيانًا شبه مستقل في شمال سوريا، محميًا بسلاحهم، وتحالفاتهم، ومؤسساتهم. وخلال الحرب، رسخوا نموذجًا في الحكم الذاتي تجاوز حدود الطائفة والعرق، واستقطب حتى بعض العرب في مناطقهم.
وتعارض العقيدة السياسية الكردية، المتأثرة بأفكار حزب العمال الكردستاني، بشدة أي مشروع سلطوي مركزي، دينيًا كان أو قوميًا، مما يجعل من دمجهم في دولة مركزية مهمة شبه مستحيلة دون تقديم تنازلات جذرية في بنية النظام.
وفي المقابل، يعيش المسيحيون السوريون نوعًا من الترقب القلق. ولم تكن علاقتهم بالسلطة الإسلامية مفروشة بالورود، لا في الخطاب ولا في التجربة.
ويشير مراقبون إلى أن بعضهم تمسك بنظام الأسد خوفًا من البديل الإسلامي، لكن ذلك لا يعني ولاءً أعمى. واليوم، يطالب الكثير منهم بضمانات واضحة لحقوقهم، ومكانهم في أي نظام جديد، دون أن يضطروا إلى الانخراط في لعبة المحاور أو الولاءات الدينية.
وتمنحهم جذورهم الضاربة في التاريخ السوري مشروعية الوجود، لكن حاضرهم يتطلب حماية واقعية لا خطابات طمأنة. وضمن هذا الواقع المعقد، يبدو أن مشروع الشرع لإعادة “لمّ شمل سوريا” محكوم بسقف منخفض من التوقعات.
ولا تكفي اللغة الجامعة، ولا الشعارات الوطنية، ما لم تُترجم إلى هيكل دستوري واضح يضمن حقوق الجميع، ويعترف بالتعدد، ويقدّم نموذجًا جديدًا للحكم يتجاوز مركزية القرار والطابع الأحادي. ويؤكد محللون أن المخاوف ليست نظرية، بل نابعة من تجربة مرة، دفعت كل جماعة دينية أو عرقية إلى الاحتماء بجدرانها، بعد أن شعرت بأن انتماءها الوطني وحده لم يكن كافيًا لحمايتها.
والأمر الأكثر إلحاحًا أن المشروع السياسي للشرع يبدو حتى اللحظة تقليديًا في مقاربته، كأنه يعيد إنتاج الدولة كما كانت، دون الاعتراف بأن ما انكسر في سوريا ليس فقط التوازن السياسي، بل العقد الاجتماعي ذاته. وحين يغيب هذا الفهم، تُصبح إعادة التوحيد ليست فقط مهمة صعبة، بل ربما وهمًا سياسيًا ما لم يُعاد بناء الدولة من أساسها، على قاعدة الشراكة لا السيطرة، والتعدد لا الانصهار القسري.