العلمانية
علي حرب: الصيغة اللاهوتية ليست قاعدة للنهوض والإصلاح والتطور

كه يلان محمد

الإثنين 29 أيلول 2025

لا اختلاف في أن الأقطار العربية تواجه مصاعب شتى، لا تتوقف في حدود الاقتصاد والسياسة، ولا عند أزمات المجتمعات والأفراد الهووية، بل تذهب أبعد إلى غياب ثقافة النقد الذاتي، والغرق في أوهام فكرية ودينية ساهمت في صناعة تخلف صلب، يحتاج إلى مفكرين جريئين على شاكلة اللبناني علي حرب لتجاوزه.
 
يحقق المفكرُ مصداقية لمشروعه المعرفي وحفرياته الفاحصة في تربة المسلّمات بجرأته على اتخاذ مسافة من البيئة الذهنية التي ترخي بظلالها على نظرة الإنسان، وتتسربُ مؤثراتها إلى تشكيلته العقلية مهما حاول الانشقاق عن الأطر النفسية والاجتماعية والثقافية للواقع المركب.
 
وقد يجدُ المفكرُ في الروائي نموذجا يمكن الاقتداء به لأنَّه ينظر إلى شخصياته الفنية من بعد وظيفي ولا يندمجُ مع أصواتها، كذلك الأمر بالنسبة إلى من يتمرس التفكير يجبُ أن يبحث عن مساحة فاصلة بينه وبين خلفيته المحملة بالترسبات التي لا تُستهلك بالتقادم ولا يتوحد مع المفاهيم سواء كانت دينية أو فلسفية أو علمية لأنَّها ليست أكثر من آليات في مختبر المعرفة الإنسانية.
 
وفي الحقيقة إنَّ عدد الأشخاص الذين ارتدوا على ذواتهم العقائدية والأيديولوجية محدود في تاريخ الفكر البشري. هنا يتبادر إلى الذهن فولتير الذي أعلن إدانته لحملة الإبادة التي استهدفت الأقلية البروتستانتية، علماً بأنَّ صاحب “رسائل فلسفية” كان من الأغلبية الكاثوليكية. كذلك الأمر بالنسبة إلى إميل زولا فقد دافع عن الضابط اليهودي دريفوس الذي كان مُتهماً بالخيانة زوراً. ويؤرخُ موقف زولا لبروز المُثقف الفاعل في المجتمع ويبدو أن لفرنسا سبقاً على هذا الصعيد فبدوره نشر جان بول سارتر كتاب “عارنا في الجزائر” رفض فيه جرائم المشروع الاستعماري مؤكداً تأييده لاستقلال الجزائر.
 
سعة النقد الذاتي
 
 
في الواقع إنَّ من لا يخرج من قوقعته القومية ولا يرى أبعد من مذهبه أو طائفته لا يكون انخراطه في مجال الفكر أو الأدب أو الكتابة إلا تمويهاً مُضللاً حاله حال الكهنة الذين يتوسلون بالعقيدة لحماية موقعهم الرمزي، وليس إيماناً منهم بالدين. لذلك يرى علي حرب أنَّ من شروط فهم المشكلات والبحث عن مفاتيح الحل ارتداد المرء على أطروحته أو مقولته، بالنقد والتحليل، للكشف عن مكر الخطاب وطيات الفكر والتباس المفاهيم.
 
فعلا تمكن مؤلف “الممنوع والممتنع” من الانشقاق عن حلقات عقائدية وأيديولوجية، فقد سردَ في كتابه “خطاب الهوية”، وهو سيرة فكرية، محطاتِ من ارتداداته على نسق التفكير الذي يتشكلُ في إطار البيئة أو تفرضه الموجات السائدة. وأدرك أنَّ لحظة إماطة اللثام عن الوهم متزامنة مع صناعة الإنسان لغيره من الأوهام.
 
وهذا التبصر باحتمالات الجمود ومعرفة آليات الفكر في توليد ما يناقضها تدبير استباقي يحمي منهج علي حرب من التكلس والأحادية في الرؤية. إضافة إلى ذلك تفوق صاحب “لعبة المعنى” في نحتِ واشتقاق مُصطلحات كاشفة لأوجه الأزمات والإشكاليات لعلَّ أبرزها الإنسان الأدنى، وهو لا يقصدُ بذلك قسمة البشر إلى أدنى وأعلى، بل يعبرُ بهذه المقولة عن إخفاق الكائن البشري وتقاعسه في أن يكون بمستوى ما يدعيه من القيم والقواعد والمثل والمبادئ.
 
ولا يناور علي حرب في التستر على خيبته وتشاؤمه من الواقع الإنساني إذ يقول في كتابه “الإنسان على المحك، المركزية البشرية والتوازن البَّناء” بأنَّ الأصل البشري ليس التعقل والتسامح والاعتراف، وليس حب الحقيقة والمساواة والخير العام، بل الهوى والتعصب أو الخداع والمُخاتلة. وقد لا يتطلبُ الأمر عناء التأمل للتأكد من صحة ما ذهب إليه علي حرب في قراءته للمشهد الإنساني المفلس قيمياً.
 
يسعُ النقدُ في اشتغالات الفيلسوف اللبناني لتيارات من أطياف فكرية وثقافية مُختلفة ولا يفتحُ قوسَ النقد على معسكر دون الآخر، كما لا يعقدُ رهانه على مفهوم دون غيره من المفاهيم. إذ يضعك أمام الواقع العربي المأزوم والغرب الخائن لقيمه العالمية في آن واحد. ويصرح علي حرب بأنَّ العرب لا يملكون إلا سلاحين النفط والدم، فالأول صنع برأيه تضخما أكثر ما صنع تنميةً، أما الثاني فإنَّه يرتدُّ وبالاً عليهم كما اتضح ذلك بعد تفجيرات سبتمبر 2001، وما تبعها من زلزال في الخرائط السياسية. وفي المُحصلة إنَّ الحروب التي تدور في البلدان العربية هي حروب عالمية لا يلعب فيها العرب إلا دور الوكيل.
 
وعلى الرغم من اعترافه بالأشواط التي قطعها الغرب علمياً وفكرياً وما حققه على المستوى السياسي من التحديث، فإنه يلفت النظر إلى النرجسية التي لم يتعاف منها الغرب، إذ يعتقد أبناء الغرب أنهم مركز العالم ومقياس التقدم الحضاري وعندهم مقاليد العلم والتقنية.
 
من الخطأ أن يكون سقف التوقعات من الثورة مرتفعا إلى درجةٍ ينتظرُ فيها المرءُ قيام الديمقراطية مباشرةً بزوال النظام
 
ويذكّر حرب بحقيقة منسية وهي أنَّ التقدم والنهوض في أي منطقة أخرى يثيران القلق والتوتر في الغرب، بالطبع إنَّ علي حرب لم يحالفه غير صواب في هذا التحليل، لأنَّ الغرب يرحبُ بافتتاح فروع لشركاته العملاقة، ومُحاكاته في إنشاء صروح شاهقة وإطلاق فضائيات تحت مُسميات مُختلفة، لكنه يناهض كل مشروعٍ يرسي وجود إرادة مُستقلة ويُمهدُ للخروج من وصايته. ومع ذلك لا بُدَّ من سؤال لماذا الغرب دون غيره نجح في صياغة قيم لها طابع عالمي؟ّ
 
 صحيح أنَّ أعراض التصدع قد لاحت في المشروع الغربي غير أنَّ هذا لا يعني انهياره أو غياب الإمكانية لترتيب الأوراق من جديد، وما يدعو إلى الاستغراب في نظر علي حرب أنَّ العرب والمسلمين مصرون على الصفة الدينية في التعريف بهوياتهم كما يتضحُ هذا الأمر من التسميات الرائجة: الدول الإسلامية، الخلافة، جمهورية ولاية الفقيه…، وما تمنى به المحاولات المتكررة بهذه العناوين ليس سوى الفشل والتعثر في توحيد حي في مدينة.
 
يتطلبُ هذا الواقع المُثخن بالأزمات حسن القراءة لتحديات العصر ولا يرى صاحب “نقد الحقيقة” مصداقية في رمي الإخفاقات المدوية فكريا وعلميا وسياسيا على مشجب الغرب. ولا يجدي تكرار السؤال الذي تصدر المشهد الفكري لأكثر من قرن “لماذا تقدم الغربُ وتأخر العرب؟” نفعاً بل يجب تعديل الصيغة والقولُ بـ”لماذا يتأخر العربُ وتتقدمُ بلدان كانت وراءهم أو كانت مجهولةً ولا يسمع بها أحد؟” والمشكلةُ حسب اجتهاد علي حرب تكمنُ في النظر إلى العالم بعين الخشية والمؤامرة، فمن الضروري تصحيح هذه الزاوية ورؤيته ميداناً حيوياً وأفقاً كونياً.
 
الاستثناء السلبي
 
 
 
 
قد يحضر الفيلسوف على المسرح مُقنَّعاً وبذلك يتفادى الاصطدام مع الأفكار الجامدة. كان ديكارت ينصحُ بالابتعاد عن مناطق ملغمة، ولعلَّ ما يكسب هذا المبدأ معقولية أنَّ الفلاسفة لا يحقُ لهم استنزاف الزمن بصراعات لا طائل منها في نضوج مشروعهم الفكري، لذلك قد لا يدخلون حلبة المبارزة مُباشرة. لكن علي حرب تطيبُ له المُغامرة مبادراً بتسمية الأشياء بأسمائها بقدر ما يتحملُ الاسمُ تشعب المسمى. وفي الواقع أنَّ المتوقع من المفكر هو القيام بهذه الوظيفة وعدم الهروب منها، إبانة اللحظات الفارقة في حياة الأمم والشعوب.
 
يحددُ علي حرب في “الإنسان على المحك” الأمراض التي تقطع الطريق على النهوض من الانحطاط الحضاري، منها النرجسية الثقافية ووهم الاصطفاء والتفوق إذ يشيرُ في سياق شرحه لهذا الموضوع إلى اختلاف بين المسلمين الأوائل، وهم لم يقعوا في مطب التجريد بل كان إعمال العقل في النص جزءاً من ثقافتهم، وبالتالي نجحوا في إنتاج الفكر والمعرفة، بينما المسلم المعاصر يقتنع بالنقل دون العقل، ويدور في فلك المماهاة والتطابق.
 
ما يدعو إلى الاستغراب في نظر علي حرب أنَّ العرب والمسلمين مصرون على الصفة الدينية في التعريف بهوياتهم
 
ويستشهدُ بمقطع من خطبة أبي بكر الصديق، حجة على الحاضر المُتكلس إذ صرح الخليفة الأول بأنَّه قد ولي الخلافة وليس بأفضل من غيره. فيما اليوم الشعار السائد هو “أنا مالك الحقيقة، أنا من الفرقة الناجية وغيري مصيره الجحيم.”
 
جانب آخر من التخلف المزمن يراه علي حرب في الزيف الوجودي، إذ يزعمُ العرب بأنَّ كل ما حققه الغرب ليس إلا نسخة مكررة لفتوحاتهم الفكرية في الماضي. كما يخلطون بين الغرض الإيماني والأخلاقي للنصوص المقدسة والاكتشافات العلمية. أضف إلى ذلك النظرة المتحجرة إلى التراث الذي كبل العقل الذي لا يهمه إلا البحث عن مطابقة المعطيات الحديثة مع أحكام الفقهاء. وهذا ما يسميه علي حرب بالاستثناء السلبي بين الأمم.
 
ويعلنُ المؤلفُ بوضوح أن الصيغة اللاهوتية قد استنفدت رهاناتها ولم تعدْ صالحةً لأن تكون قاعدة للنهوض والإصلاح والتطور. وقد سارع الكثير من المتابعين إلى إصدار شهادة الوفاة للربيع العربي لاسيما بعد الانهيارات الكارثية التي ضربت بنية بعض المجتمعات التي طالها الحراك الثوري. وما عدا تونس التي تعدُ استثناء إيجابيا حيث تخطت بالاعتماد على قيمها الفكرية وتكوينها المؤسساتي محنة اليوم التالي للثورة، فإنَّ بقية الكيانات الأخرى قد انتكست ثقافيا وسياسياً واقتصادياً.
 
وعلى عكس النغمة الغالبة عن نهاية الثورات والتشاؤم بمآلاتها فإنَّ علي حرب يرى أن الثورة أمامنا. ويستندُ في ذلك إلى الموجة الثانية من الاحتجاجات التي بدأت في السودان والجزائر. وهو بصدد متابعة ارتدادات الثورة بجغرافية مختلفة لا يغيبُ عنه أنَّ ما يصحب الثورة ليس كله فتوحاتٍ لآفاق جديدة خصوصاً في بيئات موبوءة بالعسكرتارية والبيروقراطية الأمنية، إذن لا يُستبعدُ أن تنقلب الثورة إلى العنف والإرهاب مثلما صار في الثورة الفرنسية.
 
 
 
 
ومن الخطأ أن يكون سقف التوقعات بالثورة مرتفعا إلى درجةٍ ينتظرُ فيها المرءُ قيام الديمقراطية مباشرةً بعد زوال النظام الدكتاتوري لأنَّ التحول الديمقراطي كما يفهمه علي حرب ليس مجرد نموذج يُطبق أو يُستورد على الطريقة العراقية، إنّما هو خبرة وجودية تسفر عن التجديد المفهومي وتطوير آليات الممارسة. والأهم ما يصطلح عليه بالسبات الديمقراطي في قراءة صاحب “حديث النهايات”، ما يعني أنَّ البيئات الديمقراطية ليست محمية من أوبئة التطرف والشعبوية والخطابات العنصرية.
 
لذلك فإنَّه من السذاجة الاعتقاد بأن الديمقراطية تعادلُ التطهر من البربرية. ومن المعلوم أن علي حرب هو من الأوائل الذين أثاروا الشكوك بشأن النخبة الثقافية وما انفك المثقفُ مُستهدَفاً في مقارباته الفكرية إذ يرى أن الإنسانية المُفلسة قيميا تضعنا أمام حقيقة فشل المثقف وإخفاق مشاريعه وبرامجه.
 
ويسعى إلى تجاوز مقولات مدبجة بنفس وجداني على غرار الإنسان الإنسانوي والاستلاب الماورائي والظمأ الوجودي، وصياغة جملة من المفردات وهي الأقرب إلى الواقع الوجودي: الإنسان الأدنى، الإنسان الكوكبي، الإنسان التواصلي، التواضع الكياني…
 
ويذكرنا علي حرب باستمرار بسقوط المشاريع التي قادها المثقفون والفلاسفة الذين تصرفوا كمُناضلين ومُصلحين. وأرادوا أن يكونوا أنبياء للأزمنة الجديدة. ما يخلصُ إليه حرب أنَّ فعل التغيير قد تغير مفهوماً وإستراتيجية، مُعلناً عدم صلاحية ما دعا إليه كل من ماركس ولينين وماو أو ما يدعو إليه جيجك وبورديو أو تشومسكي، لأنَّ الأمر مُناط بمسار مركب يتم على غير مستوى وصعيد. إنَّ العالم قد يعبرُ يومياً نظام الثنائيات، النخبة والجمهور أو الزعيم والحشد أو القائد والقطيع، لكي يدخل تشكيلة مختلفة عنوانها المجتمع التداولي والشبكي.
 
قصارى القول عن منهج علي حرب أنَّه ينظرُ إلى الحدث والنص والفكرة على أنَّها مُعطيات لا تتقيدُ مفاعيلها بحدود ما هو متوقع، بل تكون لها تبعات غير محسوبة لدى الفاعلين، وهذا المنحى هو ما يخطهُ بوضوح في كتابه الصادر حديثاً “إنسانيتنا تفضحنا، نحن ضحايا مشاريعنا الأصولية”، إذ يرى حرب أنَّ من نعتبره عدونا يصنعنا على شاكلته من حيث لا يحتسب ولا يُعقل. وهذا موضوع آخر سيعود إليه الكلام في مقال آخر.
 
 
المصدر: العرب اللندنية