العلمانية
المسألة الكردية.. من روج آفا إلى الإدارة الذاتية

المدن

الخميس 25 أيلول 2025

منذ أكثر من عقد، ظلت القضية الكردية في سوريا حاضرة في قلب الصراع، تتأرجح بين حلم الأكراد في إدارة ذاتية معترف بها، وبين هواجس أنقرة الأمنية ورفض دمشق لأي صيغة قد تمس وحدة الدولة، ومع التحولات الأخيرة التي دخلتها سوريا بعد مرحلة "التحرير"، تجد الإدارة الذاتية نفسها أمام مفترق طرق: إما أن تنجح في تكريس مكانتها ضمن ترتيبات دستورية جديدة، أو تتراجع تحت ثقل الضغوط الإقليمية والدولية.
 
الطموحات الكردية
 
ظهرت الإدارة الذاتية في أحلك مراحل الحرب، مستفيدة من فراغ السلطة الذي خلّفه انكفاء النظام السوري عن مناطق الشمال الشرقي. خلال سنوات قليلة، تمكنت من تأسيس مؤسسات حكم محلي، مجالس مدنية، محاكم، بالإضافة إلى شبكة خدمات عامة شملت الصحة والتعليم والبنية التحتية.
 
كما برزت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باعتبارها الذراع العسكرية القادرة على حماية هذا الكيان، وتحولت إلى شريك رئيسي للتحالف الدولي ضد تنظيم "داعش".
 
لكن مشروع "روج آفا" لم يكن مجرد تجربة إدارية محلية، بل حمل أبعاداً سياسية تتجاوز الجغرافيا السورية، متأثرة بخلفيات فكرية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وبطموحات قومية تتطلع إلى صيغة فيدرالية أو على الأقل لامركزية راسخة.
 
اليوم وبعد سنوات من السيطرة الميداني، باتت الإدارة الذاتية تسعى إلى:
 
• إدماج وضعها الخاص في الدستور السوري الجديد، بشكل يضمن الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية.
 
• الحفاظ على قوات محلية تلعب دوراً في حماية الأمن الإقليمي.
 
• إدارة الموارد الاقتصادية، ولا سيما النفط والزراعة، باعتبارها ركيزة للاستقلال المالي النسبي.
 
هذه الطموحات تبدو طبيعية من وجهة نظر القادة الأكراد الذين يرون أنهم أثبتوا قدرتهم على إدارة مناطق واسعة وتوفير الأمن، لكنها تصطدم بجدار صلب من المعارضة الإقليمية.
 
 
بين الحلم والواقع
 
يصف المحلل السياسي حسام نجار، في حديث لـ"المدن"، تجربة الإدارة الذاتية بأنها أشبه بحلم بُني على أرض رخوة: "من أصعب المواقف أن تحلم بمستقبل لك ولأبنائك، ثم تصدمك الوقائع وتبدد هذا الحلم، فتتمسك بشعرة منه، هذا حال الإدارة الذاتية التي عملت سنوات طوال، لكنها وجدت نفسها أداة في يد واشنطن وتل أبيب لتحقيق أهدافهما".
 
ويرى نجار أن "القيادة الكردية أخطأت في حساباتها حين بنت تحالفاتها على أساس استمرار نظام الأسد، ولم تتوقع سقوطه، واليوم يشير إلى أن المؤشرات كلها تتجه نحو تبعية الجناح العسكري لقسد للجيش السوري الجديد، وحلّ التشكيلات شبه العسكرية المرتبطة بها".
 
ويضيف "هم يلعبون في الوقت الضائع، ولا أفق لمطالبهم المرتفعة، ما يمكن أن يطلبوه واقعياً هو إدارة محلية موسعة، لا إدارة ذاتية كاملة".
 
فيما يلفت المحلل الاستراتيجي العقيد أديب العليوي، في حديث لـ"المدن"، إلى انقسام داخل صفوف "قسد" قائلاً: "هناك جناح قنديلي يميل إلى المحور الإيراني ويرفع سقف الانفصال، في مقابل جناح آخر يسعى لتثبيت نموذج حكم محلي أقرب للفدرالية".
 
ويضيف العليوي أن "قسد" حاولت اللعب على وتر التحركات في السويداء لتقوية حجتها، معتبراً أنه "من مصلحة قسد أن تدعم أي حراك انفصالي في مناطق أخرى لتبرير مشروعها، لكن في النهاية لا يمكن أن تكون سوريا إلا واحدة موحدة، أي مسار آخر يعني بداية تفكك الإقليم كله".
 
 
مواقف اللاعبين المحليين والخارجيين
 
لا تزال دمشق متمسكة بخطاب مركزي لا يقبل الفدرالية، ومع أن المفاوضات مع الإدارة الذاتية لا تتوقف، إلا أنّ سقف التوقعات منخفض. فالأكراد يريدون اعترافاً دستورياً وصلاحيات واسعة، فيما تعرض دمشق إدماجاً مشروطاً يضمن عودة المؤسسات السيادية كاملة تحت سلطتها.
 
ويرى نجار أن الدولة السورية "عازمة على شروطها، وأن الإدارة الذاتية مضطرة للرضوخ في النهاية، وإن حاولت رفع سقف المطالب لتأمين أكبر قدر من المكاسب قبل التنازل".
 
بيتما ترى تركيا في أي كيان كردي مسلح على حدودها، تهديداً وجودياً، فهي تعتبر الإدارة الذاتية امتداداً لحزب العمال الكردستاني، ولذلك تحركت عسكرياً أكثر من مرة داخل الأراضي السورية، وواصلت الضغط السياسي على المجتمع الدولي لمنع أي اعتراف بالمشروع الكردي.
 
ووفق نجار، فإن أنقرة تدرك خطط واشنطن في المنطقة وتحاول كسرها عبر ثلاث أدوات: قوتها العسكرية، دعمها موقف دمشق المتمسك بالوحدة واستخدام نفوذها الإقليمي لمنع أي تسوية تمنح الحكم الذاتي إطاراً شرعياً.
 
أما واشنطن فاستثمرت في "قسد"، كأداة عسكرية ضد "داعش"، لكنها لم تمنحها يوماً التزاماً سياسياً طويل الأمد. في النهاية، القرار الأميركي مرتبط بتوازنات أوسع في المنطقة.
 
بينما تحاول روسيا لعب دور الوسيط، لكنّها أقرب في مواقفها إلى دمشق، وتعتبر وحدة الدولة السورية أولوية لا نقاش فيها. فيما تنظر إيران بحذر إلى المسألة الكردية، خشية انتقال العدوى إلى الداخل الإيراني.
 
 
سيناريوهات المستقبل
 
من خلال مداخلات الخبراء والتحليل السياسي، يمكن رسم ثلاثة مسارات محتملة:
 
1. تسوية وسطية: إدماج الإدارة الذاتية في إطار الدولة مع صلاحيات إدارية واسعة وضمانات ثقافية.
 
2. تشدد مركزي: فرض دمشق سيطرتها الكاملة بالقوة أو عبر اتفاقات صارمة، ما قد يولد توترات جديدة.
 
3. تصعيد تركي: عملية عسكرية جديدة تغيّر موازين القوى وتضعف المشروع الكردي بشدة.
 
القضية الكردية في سوريا اليوم، ليست شأناً محلياً فحسب، بل ورقة إقليمية يتداخل فيها الأميركي بالتركي، والإيراني بالروسي، والداخلي بالخارجي، وبين حلم الأكراد في كيان معترف به، ومخاوف أنقرة الأمنية، ورفض دمشق لأي صيغة تهدد وحدتها، يبقى الحل بعيد المنال.
 
لكن، وكما يرى أديب العليوي: "في النهاية ستندمج قسد مع الدولة السورية عبر تنازلات متبادلة، بضغوط أميركية ورغبة سورية – تركية مشتركة بمنع التقسيم"، لتظل الإدارة الذاتية عالقة بين واقع لا يرحم، وأحلام مؤجلة تنتظر لحظة لم يحِن أوانها بعد.