مستقبل الشرق الأوسط: التطرف يعمّق الأزمات والشجاعة تصنع الحلول
العرب اللندنية
الأربعاء 17 أيلول 2025
يُجمع المراقبون على أن الشرق الأوسط يعيش منذ عقود في حلقة مفرغة من الأزمات المتشابكة، حيث تتداخل الصراعات الأيديولوجية مع الانقسامات السياسية والطائفية، لتنتج واقعا مضطربا يعرقل أي مسار نحو الاستقرار. وفي قلب هذه المعادلة يبرز التطرف باعتباره العامل الأكثر إلحاحًا في تعميق المأزق، مقابل الشجاعة التي تمثل الأفق الوحيد للخروج من هذا المأزق وبناء مستقبل مختلف.
وأثبتت التجربة أن الجماعات المتطرفة، مثل حماس في غزة وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، لا تقدم لشعوبها حلولًا سياسية أو اقتصادية حقيقية؛ بل بالعكس، تستثمر في الألم والمعاناة لتكريس نفوذها، وتحول القضية العادلة إلى ورقة مساومة بيد داعميها الإقليميين، وعلى رأسهم إيران. وفي النهاية يصبح المواطن البسيط هو الضحية، إذ يُحرم من الأمن والاستقرار والتنمية، وتُختطف الدولة لصالح أجندات لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية.
ولا يقتصر هذا النهج على الميدان العسكري فقط، بل يمتد إلى حرب الخطاب. فالتطرف يرفع شعارات المقاومة والكرامة، لكنه في الواقع يغذي خطاب الكراهية والانقسام، ويفتح المجال أمام المزيد من العنف وردود الفعل المتطرفة. وهكذا تتكرر الحلقة: عنف يولد عنفا، وشعوب تُدفع نحو المزيد من الانسداد واليأس. وفي المقابل، تُظهر التجارب أن الشجاعة السياسية والفكرية هي السبيل لتغيير هذه المعادلة.
وكشفت تجربة اتفاقيات أبراهام مثلًا، رغم كل الانتقادات التي وُجهت إليها، أن الجرأة على كسر الحواجز التاريخية وفتح أبواب التعاون الاقتصادي يمكن أن تفتح بدائل واقعية أمام الناس. فالسلام هنا لم يكن مجرد شعار، بل مشروعا يرتكز على المصالح المشتركة والتنمية، أي على الأمل بدل اليأس.
وتتجلى الشجاعة أيضا في مواجهة الإرهاب بوضوح لا لبس فيه، وقطع شرايين تمويله، وتجفيف منابعه الفكرية والإعلامية. فهي لا تعني فقط الرد العسكري، بل بناء بيئة بديلة تمنح الشعوب كرامة حقيقية: مدارس حديثة، مستشفيات، فرص عمل، واستقرار سياسي. فحين يُحرم الشباب من الأمل، يصبحون صيدًا سهلًا للتيارات المتطرفة. أما حين تُفتح أمامهم أبواب الكرامة والفرص، يصبحون شركاء في صناعة السلام.
ويرى الباحث أحمد شراعي في تقرير نشرته مجلة “ناشونال أنتريست” الأميركية أن اللحظة الراهنة تحمل فرصة تاريخية للمنطقة: فالتطرف يمرّ بمرحلة ضعف نسبي نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية والمجتمعات باتت أكثر وعيًا بأن الشعارات لم تعد تكفي والظروف الدولية والإقليمية تفرض البحث عن حلول عملية بدل الدوران في دوامة الماضي.
ويشير شراعي إلى أن السؤال اليوم ليس عما إذا كان الشرق الأوسط قادرًا على تجاوز أزماته، بل هل يمتلك قادته وشعوبه الشجاعة الكافية لاتخاذ القرارات الصعبة؟ لأن التطرف سيظل دائما حاضرا ومستعدا لإعادة إنتاج نفسه، ما لم تُبذل جهود جريئة لكسر هذه الحلقة التاريخية.
ويؤكد أن التطرف يعمّق الأزمات، بينما الشجاعة تفتح باب الحلول. وبين الخيارين، يتحدد مستقبل المنطقة: إما الاستسلام لدوامة الفوضى، أو بناء شرق أوسط مختلف، يقوم على الأمل بدل الخوف، وعلى الكرامة بدل الشعارات، وعلى الشجاعة بدل التطرف. وشكّل الدور الإيراني أحد أبرز عوامل تعقيد المشهد في الشرق الأوسط. فمنذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، اعتمدت طهران سياسة قائمة على تصدير الثورة وبناء أذرع عسكرية خارج حدودها، بهدف موازنة نفوذ خصومها الإقليميين والدوليين.
وقد انعكس ذلك في دعمها المباشر لحزب الله في لبنان، الذي تحوّل من فصيل مقاوم محلي إلى قوة عسكرية – سياسية تملك قرار الحرب والسلم داخل الدولة اللبنانية، وفي دعمها لحركة حماس وفصائل أخرى في غزة، فضلًا عن الحوثيين في اليمن ومجموعات مسلحة في العراق وسوريا.
ولم يكن هذا الدعم مجرد تضامن أيديولوجي، بل جزءًا من إستراتيجية أوسع تُعرف بـ”محور المقاومة”، هدفها استخدام هذه التنظيمات كأدوات ضغط في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما. وكانت النتيجة تحويل أزمات محلية قابلة للحل عبر السياسة إلى ساحات صراع إقليمي ودولي، حيث أصبح المواطن العربي رهينة لتجاذبات لا علاقة لها بمصالحه المباشرة.
أما الولايات المتحدة والقوى الغربية فقد لعبتا دورا متناقضا ومزدوجا في آن واحد. فمن جهة، دفعت واشنطن وحلفاؤها إلى مبادرات سلام مثل “اتفاقية كامب ديفيد” أو “أوسلو” أو حتى “اتفاقات أبراهام”، وساهمت في رعاية حوارات دولية حول حل الدولتين. لكنها في المقابل تورطت في تدخلات عسكرية مباشرة خلّفت فراغات أمنية ضخمة، كما حدث في العراق بعد 2003 حين أدى إسقاط النظام إلى تفكيك مؤسسات الدولة وصعود تنظيمات متطرفة كتنظيم القاعدة ثم داعش.
وساهمت سياسة دعم أنظمة غير إصلاحية، بذريعة الحفاظ على الاستقرار، في إطالة عمر الفساد والاستبداد، وهو ما وفّر أرضية خصبة لخطابات التطرف التي تستثمر في الغضب الشعبي واليأس الاجتماعي.
وجعل هذا التناقض بين الخطاب المثالي والممارسة الواقعية ثقة الشعوب بالغرب متآكلة، ورسّخ انطباع أن موازين المصالح تعلو دائمًا على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي المقابل يبرز صعود الصين ودول البريكس بوصفه تحولًا نوعيًا في ملامح التوازن الدولي داخل المنطقة. وعلى عكس القوى الغربية التي ارتبط حضورها تاريخيًا بالتحالفات العسكرية والسياسية، قدّمت بكين وحلفاؤها نموذجا يقوم على التنمية الاقتصادية والاستثمار طويل المدى.
وعززت مبادرة “الحزام والطريق” مثلًا البنية التحتية في دول عديدة بالشرق الأوسط، من الموانئ المصرية إلى السكك الحديد الإيرانية والمناطق الصناعية في الإمارات والسعودية. كما أن نجاح الصين في التوسط بين السعودية وإيران عام 2023 شكّل سابقة مهمة، إذ أثبت أن لغة الاقتصاد والتنمية قد تفتح أبوابا أغلقتها سنوات من الصراع الطائفي.
وبالنسبة إلى شعوب المنطقة، فإن هذا البديل لا يقوم على استيراد الحروب أو إعادة إنتاج الأزمات، بل على تقديم فرص عمل، ومشاريع طاقة، وتعاون تكنولوجي يمكن أن يحوّل التطلعات إلى واقع ملموس. وفي الوقت نفسه يشير اتساع دور البريكس -بانضمام دول عربية مثل السعودية ومصر والإمارات- إلى ميل متزايد نحو تجاوز الهيمنة الأحادية للغرب وبناء شراكات أكثر تنوعا وتوازنا.