هل ينفع الحوار مع “اليمين المسيحيّ” اللبناني؟
مالك أبو جمدان
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024
لا شكّ في أنّ هناك فئة وازنة من اللّبنانيّين صُدمت وتُصدم، في هذه المرحلة من الحرب الإسرائيلية على لبنان بالذّات، من تلقّي أغلب زوايا خطاب ما نسمّيه عادةً بـ"اليمين المسيحيّ"، ولا سيّما منه خطاب الحزب الذي يُمثّل اليوم باعتقاديّ "دينامو" هذا اليمين الرّاديكاليّ: فكريّاً، واجتماعيّاً، وتنظيميّاً، وسياسيّاً.. ألا وهو حزب "القوّات اللّبنانيّة". أمّا سؤال لماذا نعتمد تسمية "اليمين المسيحيّ"، فنتركه لسياقات أخرى، مع دعوة قارئنا إلى التّركيز على المقاصد والمعاني بَدَلَ التّعلّق بالألفاظ والمباني.
أمّا سؤال لماذا نعتمد تسمية “اليمين المسيحيّ”، فنتركه لسياقات أخرى، مع دعوة إلى قارئنا للتّركيز على المقاصد والمعاني بَدَلَ التّعلّق بالألفاظ والمباني. وأمّا سؤال لماذا لا يشمل هذا الحديث أحزاباً أخرى ذات طابع “مسيحيّ” واضح بالمعنى السّياسيّ والثّقافيّ اللّبنانيّ، مثل “التّيّار الوطنيّ الحرّ” ومن يدور في فلكه بالتّحديد: فلأنّني أعتقد، حقّاً، أنّ هذا الأخير ومنظومته الفكريّة والاجتماعيّة الحاضنة.. يتضمّنان بالتّأكيد نزعات لبنانيّة “يمينيّة” معيّنة. ولكنّ “التّيّار”، بالفعل وبرغم كلّ الملاحظات الممكنة، وبالرّغم من اختلافي العميق مع خطاب قيادته في هذه المرحلة الدّقيقة، قد أثبت برأيي: “لبنانيّته” القويّة والعميقة نسبيّاً من جهة، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا (مثلاً: أيّ جهة اقليميّة أو دوليّة تحديداً يتبع “التّيّار” في عمق الأمور وحقيقتها؟)؛ “اعتداله” المؤكّد من جهة ثانية، ومن مختلف الزّوايا الممُكنة تقريباً (مثلاً: برغم بعض الشّطحات ذات الطّابع القوميّ-اللّبنانيّ ولأهداف استقطابيّة على الأرجح.. هل يمكن الحديث عن خطاب ذي مضمون فاشيّ-عنصريّ-فوقيّ منطلق من قناعات ثابتة وراسخة ومتجذّرة مفاهيميّاً وفكريّاً؟ بالطّبع لا، ولا يستلزم ذلك الكثير من الجدل برأيي، ونحن أهل بلد صغير جغرافيّاً ونعرف بعضنا البعض جيّداً جدّاً..). وأمّا سؤال لماذا نطرح هذه الاشكاليّة في هذه المرحلة بالذّات، فلأسباب واضحة، قد تدفع الكثيرين نحو التّساؤل عن جدوى “الحوار” الفكريّ و/أو الثّقافيّ و/أو السّياسيّ من أساسه.. مع هذه الفئة من مُواطني ونُخب هذا البلد.. اليوم أو غداً. أمّا أهمّ هذه الأسباب في نظري فهي اليوم: أوّلاً؛ إصرار هذه الجهات، لا سيّما منها بعض نُخبِها البارزة، على تبنّي فكر وخطاب ينتمي إلى منظومة المفاهيم العنصريّة و/أو الفاشيّة و/أو الاستعلائيّة بشكل عامّ. ومن مثال ذلك، وبما يشبه خطاب أحزاب اليمين المتطرّف الفرنسيّ اليوم وبالأمس (على سبيل المثال أيضاً): توجيه بعض الإعلام وبعض المنابر نحو ترويج فكرة أنّ هناك باختصار ومع التّبسيط المقصود: (١) قوماً “متحضّرين” و”متفوّقين” في هذا البلد وفي هذه المنطقة (بل وفي هذا العالم) من جهة، يعرفون معنى “الحياة” و”الحرّيّة” و”الحضارة” و”الخلاص” أكثر من غيرهم؛
(٢) وقوماً “متخلّفين” و/أو “رجعيّين” من جهة ثانية، لا يستطيعون ركوب – أو هم لم يركبوا بَعدُ – “سفينة نوح” الخاصّة بالحضارة المسيحيّة-الغربيّة بالذّات (راجع ما يلي)، وهم لا يزالون نائمين، أو مستسلمين – مع أغلب باقي الشرقيّين والمشرقيّين للأسف – في غياهب ظلمات ثقافات ما قبل “عصر الأنوار” الغربيّ (“المسيحيّ” في ما يروّجونه هُم عموماً.. والحقيقة هي أنّه كان عصراً معادِياً للمسيحيّة إلى حدّ بعيد، لا سيّما منها المسيحيّة المؤسّساتيّة الكاثوليكيّة وبالتّحديد!).
ثانياً؛ إصرار قيادات هذه الجهات، وبعض نُخبِها طبعاً، على التّموضع تموضعَ الحليفِ الأكيدِ والمُساعدِ – في الأغلب – للمشروع الاستعماريّ الغربيّ بشكل عامّ، وتحت قيادة أميركا ومنظومتها بشكل خاصّ.. ليس فقط على المستوى الفكريّ والثّقافيّ، بل على المستوى السّياسيّ أيضاً! لقد أثبتت هذه المرحلة أنّ أكثر هؤلاء لم يقوموا بمراجعة حقيقيّة لمرحلة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، بل وقد تشعر في أحيانٍ كثيرة بأنّهم ما زالوا، في الأعمّ الأغلب، عالِقين في مواقيت معظم حروبنا الداخلية. ولكي تزداد لوحتنا “جمالاً”: يُطعّم هؤلاء خطابَهم عادةً باتّهامات للآخرين بالانتماء إلى محاور اقليميّة مُعيّنة. قد يقول بعضُنا هنا: عجباً، أتتّخذ الأميركيَّ والمُستعمرَ الغربيَّ وحلفاءَه.. أصدقاء وحلفاء وعضداً منذ فجر تاريخِك السّياسيّ، ثمّ تتحدّثُ عن انتماء الآخرين إلى هذا المحور أو ذاك؟ أعتقد أنّ الكثيرين في هذا البلد ما فتئوا يعتقدون بأنّهم أذكى من النّاس ومن قواعدنا الشّعبيّة.. ولكنّ هذه “مزحات” لم تعد تمرّ على أكثر نُخبنا أقلّه (أقصد قواعدنا ونخبنا اللّبنانيّة بشكل عامّ). ثالثاً؛ اصرار قيادات هذه الجهات وبعض نُخبِها أيضاً على التّحالف في منطقتنا.. مع الجهات المستندة فكريّاً إلى تيّارات ما يمكن تسميته بـ”الإسلام الظّاهريّ” أو “الإسلام التّكفيريّ”. قد يطرح بعضُنا السّؤال التّالي أيضاً: كيف يُمكن لأحد أن يُقنع قوماً مسيحيّين، منتمين إلى بولس طبعاً، ولكن بالأخصّ إلى يوحنّا الانجيليّ أبي التَّصوّف والمُكاشفات والرُّوحانيّات.. كيف يُمكن أن يُفكّر في أن يُقنعهم بالتّحالف مع قوم ذوي تأويل ظاهريّ ومادّيّ وتكفيريّ للدّين؟ أليس الموقع الرّوحيّ والفكريّ الأصحّ والأسلم لمسيحيّي المشرق والشّرق.. هو إلى جانب إخوانهم من أهل المدارس الرّوحانيّة والصّوفيّة والثّوريّة-الرّوحيّة على اختلاف أديانها ومذاهبها؟ حقّاً، سؤال مُحيّر: كيف يجرُّ البعضُ أهلَه نحو أكثر تأويلات فقه ابن تيميّة تطرّفاً على سبيل المثال لا الحصر؟ إنّه سؤال برسم التّاريخ طبعاً، وبرسم أهلنا جميعاً في لبنان وفي هذا المشرق بالتّأكيد. رابعاً؛ عدم تمكّن قيادات هذه الجهات وبعض نُخبِها بشكل عامّ.. من ابعاد الشّبهات بشكل جدّيّ في ما يخصّ رأيها الحقيقيّ في قضيّة مواجهة “إسرائيل” من أساسها، وفي ما يخصّ عدوانيّة وخطورة هذا الكيان على المنطقة ككلّ وعلى لبنان بشكل خاصّ. أنظر إلى تفاعل خطاب هؤلاء عموماً مع هذه اللّحظة بالذّات على سبيل المثال أيضاً: (١) تسرّعٌ في محاولة الاستغلال السّياسيّ “لضرب” الاسرائيليّ طرفاً لبنانيّاً مُعيّناً؛ (٢) تباهٍ بفكرة أنّ موازين القوى هي لم تزلْ تميلُ لمصلحة الأميركيّ وحلفائه (جميل جدّاً..)؛ (٣) عدم انتظار انتهاء الحرب والابادة الجماعيّة على الوطن وأبنائه، بل الإصرار على رفع سقف خطاب تحميل المسؤوليّة – بل والشّماتة في واقع الأمر (آخر هذه التّجلّيات كان قول أحد “نوّاب الأمّة” الرّهيب أنّ بعض ما يحصل الآن قد يكون من باب “العدالة الإلهيّة”.. المستوى هنا كان رائعاً حقّاً..)؛
(٤) الإصرار على وضع النّفس والمُحيط، بشكل عامّ، في موضع الذي ينتظر انتصار “إسرائيل” على “المقاومة” أو على مُكوّن لبنانيّ آخر (من آخر التّجلّيات هنا كان حديث رئيس حزب “القوات” عن Peanuts ما تقوم به المقاومة اللّبنانيّة بالرّغم من كلّ الضّربات التي وجّهها لها صديقنا الأميركيّ عبر أداته الاسرائيليّة. حقّاً، هل نُجري قراءة نقديّة لتاريخنا في هذا البلد؟). خامساً؛ أخيراً وليس آخراً، وبالطّبع، علينا ذكر دعم قيادات هذه الجهات وبعض نخبها.. للنّزعات وللحركات التّقسيميّة والانفصاليّة على اختلافها. قد يكون أغلب هذا الدّعم يتمّ “بالتّذاكي” طبعاً.. أي بشكل ضمنيّ وشبه متستّر. وطبعاً، لن يكتشف اللّبنانيّون مَن هُوَ المُحرّك والمُشجّع الأساسيّ “الذّكيّ” لهذه التّيّارات ولهذه الشّخصيّات. لن نكتشف جميعاً مَن هُوَ الدّاعم المباشر أو غير المباشر.. والذي يهدف كعادته إلى استخدام هذه الورقة في لعبة البازار و/أو الابتزاز السّياسيّ نفسه. إنّه نفس الاستخدام الكلاسيكيّ المُعتمد من قبل هذه الجهات منذ ما يقارب نصف القرن تقريباً في هذا البلد: أعطونا كذا أو كذا.. أو سنطالب بالتّقسيم! على أيّ حال، بعد هذا العرض لهذه النّقاط الرّئيسيّة في نَظَري.. أعتقد أنّه يُمكننا الآن التوقّف عند هذا الحدّ في هذا المقام، وأظنّ أنّ الأفكار المركزيّة قد وصلت.
كيف يُمكن إقامة حوار ونقاش مع هؤلاء ومع ما يُمثّلونه.. حقّاً؟ هل في ذلك من نفعٍ أصلاً؟ ما الفائدة من “وجعة الرّاس” هذه.. فعلاً؟ أمّا أقطاب الطّبقة السّياسيّة الحاليّة الأساسيّون، فيميلون، في (شبه) الباطن والمضمون، إلى اعتبار أنّنا هنا أمام “صنف عاطل” (على المستوى السّياسيّ) ولا دواء له ولا من يحزَنون. ولكنّه “صنفٌ” قد نال من الضّربات والهزائم ما نال. وبالتّالي، حسب هؤلاء أيضاً، فلا لزوم للقلق من وجود هذه التّيّارات، ولا من فورات تناميها النّسبيّ من حين إلى حين. بل ويذهب بعض حاكِمينا هؤلاء إلى الاعتقاد بأنّنا قد نكون هنا أحياناً أمام فرصة، يُمكننا من خلالها مثلاً العمل على تطويق المحاولة “العونيّة” لمشاركتنا في السّلطة.. أو العمل أيضاً من خلالها على ابتزاز “حزب الله” وغيره من حين لآخر.. إلى ما هنالك من “تذاك” على الطّريقة اللّبنانيّة. نحن في هذا الموقع من العرض: وبالتّأكيد، أمام نظرة محدودة وغير جدّيّة، وذلك دون لزوم للتّشديد من قبلنا طبعاً على رفض عبارة “صنف أو جنس عاطل” وهذا بحث آخر. علينا كلبنانيّين أن نعي، يوماً ما، أنّ هذه الطّبقة الحاكمة لم تعد جزءاً من المشكلة.. بل قد تكون هي المشكلة، وهذا بحث آخر أيضاً. وثمة من اعتقد ويعتقد من الأطراف اللّبنانيّة والاقليميّة بأنّ “هؤلاء”: لا يُمكن “الجلوس” معهم أصلاً.. إلّا تحت تهديد وتخويف الأمن والجيوش والمدافع والصّواريخ ذات القَصْف والقَذْف واللَّهَب. وهذه أيضاً نظرة محدودة وقاصرة وقصيرة الأمد. ومن الأطراف من اعتقد ويعتقد أيضاً، ربّما على الطّريقة الايرانيّة الباردة الأعصاب، بأنّ الحلّ مع هذه الظّاهرة هو.. انتظار التّفاهمات مع “رُعاتها” الاقليمييّن، والأهمّ، انتظار الاتّفاقات مع “رُعاتها” الدّوليّين وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأميركيّة. حسب هذه النّظرة المعروفة: إذا ما حصلت تفاهمات واتّفاقات كهذه.. فماذا سيصبح تأثير فُلان، أو تأثير فُلان بن فُلان، في المعادلة؟ هنا أيضاً، لا أعتقد بأنّنا أمام النّظرة الصّحيحة النّهائيّة بالمعنى الوطنيّ، برغم بعض حكمة وبرغم بعض “الدّهاء” في ما سبق.. *** الآن؛ ينبغي قول الآتي: للدّهاء وللصّاروخ و”للتّذاكي” (اللّبنانيّ) حدودٌ بطبيعة الحال، تمنعنا من حلّ الاشكاليّة المطروحة من جذورها. لذلك، أعتقد شخصيّاً، وبصراحة وبموضوعيّة وبهدوء: أنّه علينا تغيير مقاربتنا للتّعامل مع هذه الظّاهرة ومع هذا الفريق (ومن يدور في فلكهما). الاتّجاه نحو الطّلاق والانفصال هو جنون: فقد ننتقل من مُصيبة رئيسيّة معلومة في المنطقة.. إلى مُصيبَتَين رئيسيَّتَين على الأقلّ. أمّا الأصحّ، والأنجح، والأقرب إلى الحكمة، فهو العمل على إقامة حوار يكون صريحاً، وموضوعيّاً، وبعيد الأمد، ومصيريّاً، وبنيويّاً، مع النُّخب المحرّكة لهذه التّيّارات.. فنحن، في هذه البقعة من الأرض، نتشارك – بالإضافة إلى هذه الأخيرة – عدداً كبيراً من القيم والمفاهيم القديمة والحديثة في نهاية المطاف. ومنها: القيم الرّوحيّة بشكل عامّ؛ القيم الأخلاقيّة ضمن الفهم الخاصّ بثقافاتنا المحلّيّة طبعاً؛ أكثر عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعيّة والعائليّة؛ وبالأخص، أكثر المفاهيم الحديثة في ما يعني، وباختصار: الحرّيّة الفرديّة، حرّيّة الرّأي والتّعبير، مفهوم العقد الجماعيّ، مفهوم العيش سويّاً، مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، مفهوم المواطنة، مفهوم الدّولة الحديثة.. إلى ما هنالك من مفاهيم وقيم أساسيّة لا بدّ وأن يوصل النّقاش من خلالها إلى برّ أمان معيّن وعقلانيّ. الحديث طويل جدّاً بالتّأكيد، ولكنّ الفكرة الأساسيّة تكمن: في ضرورة العمل على إقامة حوار جديد، وجدّيّ، وبنيويّ، وموضوعيّ، ومُمنهج، وعمليّ بالمعنى الحديث.. مع النّخب المُحرّكة لهذه الأطراف بالتّحديد، وبهدف الوصول إلى الاتّفاق على الطّرق الأمثل لإكمال هذا المشوار سويّاً، وبسلام، على هذه البقعة من المَعمورة. أحياناً، قد يكون البدء من صفحة بيضاء أو شبه بيضاء.. هو الطّريق الوحيد للوصول إلى مخرج حقيقيّ مع من تتعايش معهم. ولهذا الحديث تتمّة إن شاء الله تعالى.
المصدر: 180post