صعود مقاولي الهوية: الفاشية «عرَضاً» للانحدار الغربي
وليد شرارة
الخميس 4 تموز 2024
صدمتان في غضون شهر واحد! فبعد الانتخابات التشريعية الأوروبية التي حصدت فيها تنظيمات اليمين المتطرّف الأوروبي نسبة غير مسبوقة من الأصوات لمصلحتها، ها هي نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، الفرنسية هذه المرّة، تضع «التجمّع الوطني»، أحد أبرز تلك التنظيمات، «على أعتاب السلطة»، وفقاً لـ»لوموند». لا ريب، بدايةً، في أن حصول «التجمّع» على النسبة العليا من الأصوات، 33,2%، في الدورة الأولى للانتخابات، يمثّل انتصاراً سياسياً ومعنوياً كبيراً بالنسبة إلى تيار بقي قوة هامشية في المشهد السياسي الفرنسي، منذ تأسيسه في أوائل سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يشهد اتساعاً تدريجياً، ولكن مستمراً، لقاعدته الاجتماعية مع أوائل تسعينياته. وبعدما كان مجرّد ائتلاف يضمّ مجموعات مجهرية يمينية متطرّفة كبعض الأفراد من بقايا نظام فيشي الذي تعاون مع الاحتلال النازي في فرنسا، وأنصار «الجزائر الفرنسية» ومنظمة الجيش السري الإرهابية، وتيار أصولي كاثوليكي، تمكّن قادة هذا التيار من توظيف المتغيّرات السياسية والاقتصادية - الاجتماعية والثقافية الكبرى التي عرفها العالم وفرنسا في ظل العولمة، لتنمية وتعزيز نفوذهم السياسي الداخلي.
واستطاع التيار المذكور، في مرحلة صعوده الأولى، جذب أوساط متزايدة من الفئات الاجتماعية المتضرّرة في الأرياف والضواحي والعديد من الأحياء الشعبية في المدن من السياسات النيوليبرالية التي جرى اعتمادها بدرجات متفاوتة من جميع الحكومات المتعاقبة، اليمينية منها واليسارية. غير أن معارضته المفترضة لمثل هذه السياسات، لم تتأسّس على قاعدة معاداة الرأسمالية والدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية في مواجهتها، بل باسم «أمّة فرنسية كبرى»، كانت في ما مضى قوة إمبراطورية عظمى، وانحسر نفوذها بفعل ثورات الشعوب المستعمرَة ضدّها، وتآمُر القوى الدولية الأخرى عليها، وضعف حكّامها عن الذود عن مصالحها بالحزم المطلوب. ليس صدفة أن يكون العداء للمهاجرين القادمين من المستعمرات الفرنسية السابقة، ولأبنائهم وأحفادهم، البند الأول على جدول أعمال «التجمّع الوطني»، لأن مشروعه لـ»الإحياء الوطني»، أي لإعادة بناء الجماعة العضوية «النقية»، يشترط التخلّص منهم ومن الأعباء والتهديدات المترتّبة على وجودهم في فرنسا. بكلام آخر، يندرج بروز دور «التجمّع الوطني» في سياق الميل المتعاظم لدى قسم وازن من نخب ومجتمعات الغرب الإمبريالي، إلى تبنّي خيارات وخطابات متناقضة شكلاً مع خطاب «الانفتاح والتسامح والديموقراطية والقيم الإنسانية»، الذي ساد خلال حقبة العولمة السعيدة، جوهرها مجابهة صعود قوى الجنوب العالمي أكانت دولاً أم قوى سياسية، والتحريض ضدها وضد جاليات جار عليها الزمان واضطرت للهجرة نحو المراكز الغربية بسبب الحروب والأزمات.
المحطة الثانية في تاريخ تنامي قوة «الجبهة الوطنية»، التي ستصبح تجمّعاً في ما بعد، هي المناخات التي سادت على المستوى الدولي بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001، وانتشار مقولة «التهديد الإسلامي». ليست مصادفة أيضاً أن يصل جان ماري لوبن، مؤسّس الجبهة، إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في حزيران 2002، أي بضعة أشهر بعد هذه العمليات وما تلاها من حملة تحريض وكراهية في طول الغرب وعرضه. صحيح أن شرائح لا يستهان بها من مجتمعات الغرب عارضت مثل تلك التوجهات ولا تزال تعارضها - والتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة اليوم في مدن وجامعات أوروبا والولايات المتحدة بين تجليات المعارضة المذكورة -، إلا أن ما ينبغي إدراكه هو أن التطورات الدولية، وخاصة التي تجري في منطقتنا، تثير استقطاباً حاداً وعميقاً في مجتمعات هذا الغرب. ويأتي تراجع وانحسار نفوذه، بفعل تحولات بطيئة ومتراكمة في مجالات الاقتصاد وانتشار التكنولوجيا والمعارف على صعيد عالمي، أو متسارعة، بسبب فشله في الانتصار في الحروب التي يشنّها، كما اتضح خلال العقدَين الماضيَين، ليطلق العنان لِما يمكن تسميته بالعصبية البيضاء، أي تأييد قسم من مجتمعاته للتيارات الفاشية والعنصرية المعادية للآخرين غير الغربيين، والساعية إلى توحيد صفوف «الغرب الجماعي» في مقابلهم وخوض الصراع معهم بشروط أفضل. لا مجال لفصل ظاهرة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ومارين لوبن ومريدها جوردان بارديلا في فرنسا، وجورجا ميلوني في إيطاليا، وفيكتور أوربان في المجر، وغيرهم من مقاولي الهوية، عن الإطار الدولي العام لاحتدام النزاعات بين الغرب والآخرين على صعيد كوني، وتراجع قدرة الأول على السيطرة والهيمنة. هناك علاقة وثيقة بين انحدار الهيمنة الغربية وجنوح بعض مكوّنات مجتمعاتها نحو الفاشية.
قد تختلف بعض القوى النيوفاشية مع السياسات الخارجية للحكومات الغربية الحالية حول قضايا محدّدة. قسم منها يرى، على سبيل المثال، أن روسيا أقرب ثقافياً وحضارياً إلى أوروبا، وأنه من الضروري التفاهم معها ودمجها في إطار التحالف الغربي الأبيض ضد الآخرين. لكن المحسوم هو أن هذه القوى تزايد على حكوماتها بالنسبة إلى ضرورة دعم إسرائيل بلا شروط، باعتبارها خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية في مواجهة «البرابرة الجدد». يتبنّى هؤلاء المنظور الإسرائيلي للصراع مع العرب والمسلمين على أنه مجابهة حضارية بينهم وبين الغرب، ويعتقدون أن تعامل إسرائيل معهم هو نموذج يُحتذى. وصول مارين لوبن وأشباهها إلى السلطة في فرنسا، وربما في دول أوروبية أخرى، سيعني تماهياً أكبر من قِبَلها مع الموقف الإسرائيلي.
المصدر: الأخبار