مصر أمام أزمة إقرار خطاب ديني معتدل وغير مسيّس
أحمد حافظ
الجمعة 7 حزيران 2024
لا تزال المؤسسات الدينية الحكومية تلقى دعما سياسيا في مواجهة التطرف الديني على الرغم من فشل إستراتيجياتها في تحقيق نتائج. ويرجع فشل الدوائر الحكومية إلى اعتمادها خطابا مسيّسا يسمح لخصومها باستثماره لتكريس تواجدهم.
عكست إعادة تكليف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الدكتور مصطفى مدبولي بتشكيل حكومة جديدة الحاجة إلى خطاب ديني معتدل يحارب الكراهية والتشدد، بما يؤكد أن النظام الحاكم مصرّ على التجديد ويمنحه أولوية، مقابل رعونة بعض المؤسسات الدينية وخوف من الدخول في صدام مع تيارات أكثر انفتاحا.
وأثار استمرار بحث السيسي عن خطاب ديني معتدل حفيظة شريحة متشددة ضد كل ما يرتبط بتنقيح التراث والتوسع في الاجتهاد، لأن استمرار الفكر المنغلق يحمل مزايا عدة للعناصر المتطرفة وقناعاتها الدينية، مثل الإخوان والسلفيين، وهما من الفئة التي أخفقت المؤسسات الرسمية في مواجهتها بالفكر والمنطق والحُجة.
وتظل الأزمة الحقيقية في كيفية نجاح هذه المؤسسات في إقرار خطاب ديني لا تتسلل إليه السياسة، أو يُفهم على أنه موجه لخدمة أهداف معينة، لأن ذلك يثير شكوك الناس فيه، ويجعله يفقد المصداقية، وهي ثغرة تستفيد منها عناصر متطرفة من خلال ترويج أنها أكثر استقلالية من الرؤى الدينية التي تحقق أهداف السلطة فقط.
وتسبب تقاعس المؤسسة الدينية حيال ملف التجديد في أن تبادر مؤسسات أهلية للقيام بهذا الدور، على غرار ما قامت به مؤسسة “تكوين” مؤخرا، والتي حاولت الوصول بالمجتمع إلى توافق على الاجتهاد وإعمال العقل وعدم الاستسلام للنصوص التراثية، حتى تعرضت لهجمة مجتمعية شرسة، وصل صداها إلى مجلس النواب.
وتوحي الانتفاضة الإخوانية – السلفية التي طفت على السطح ضد طروحات الخطاب الديني المعتدل بأن المؤسسة الدينية عجزت عن اختراق المتشددين أو استمالة الشريحة التي كانت من جمهور الجماعات الإسلامية، أو من انتفضوا للثورة ضد حكم الإخوان ورفضوا أسلمة بلدهم، ما يثبت أن الأزمة متشعبة.
ويتفق متخصصون في شؤون الحركات الإسلامية على أنه ليس سهلا على الحكومة الجديدة تحقيق تقدم ملموس في ملف تجديد الخطاب الديني ما لم يتم الخلاص من قادة في المؤسسة الدينية تعاملوا معه من منظور سياسي، حيث انشغلوا بتقديم فروض الولاء للحاكم أولا، ما أدى إلى ارتفاع منسوب الرفض المجتمعي للتجديد.
ويعتقد هؤلاء المتخصصون أن مشكلة البعض من قادة الصفوف الأولى في المؤسسة الدينية أنهم يفتقدون الحنكة وإقناع الرأي العام بجدوى رسالتهم، ما يعرضهم لردود فعل عنيفة قد تدفعهم إلى الانكفاء على أنفسهم، وهي إشكالية تعبر عن عمق الأزمة بين الجهة المتصدرة مشهد التجديد وبين الفئة المجتمعية التي تتلقى الرسالة نفسها.
ويستفيد متشددون من النفاذ إلى عقول الناس بسهولة، لتحريضهم ضد دعوات التجديد، وتعرية العناصر التي تتصدر المشهد سواء أكانت تابعة للمؤسسة الدينية أم جهة أخرى مستقلة مثل “تكوين”، ما تسبب في بقاء الوضع على ما هو عليه.
ومن بين ما قاله الرئيس السيسي في إحدى المناسبات الدينية إن التراخي عن الاهتمام بملف الخطاب الديني والعجز عن تقديم رؤية وسطية، يعنيان ترك الساحة لأدعياء العلم ليخطفوا عقول الشباب ويدلّسوا أحكام الشريعة، نافيا أن تكون دعوته مرتبطة بالطعن في ثوابت الدين أو العقيدة، بل استحداث فقه معاصر للمعاملات الإنسانية.
ويبدو أن السلطة فقدت الثقة في الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء، ما جعل السيسي يلجأ إلى الحكومة لتقر سياسة واضحة لتجديد الخطاب الديني بقرارات فوقية، فالخطر يتمدد ولم تنجح الجهات المكلفة بإدارة الملف الديني في التخلص من أفكار الإخوان والسلفيين.
والواضح أن هناك قناعة راسخة لدى السلطة المصرية بأن أي شخصية وسطية ستحاول تحطيم التابوهات أو المحرمات المرتبطة بالتراث كمحاولة فردية لتجديد الخطاب الديني ونشر ثقافة التسامح والاختلاف على أسس غير عقائدية ستواجه ممانعات يصعب تليينها، مع حدة الاستقطاب وعجز المؤسسات الدينية عن اتخاذ إجراءات جريئة لتنقيح التراث.
ويكشف إصرار الإخوان والسلفيين وفئة مجتمعية متشددة حيال التراث عن معارضتهم للدولة في هذا الملف، ومحاولة توصيل الحكومة إلى مرحلة الاستسلام للأمر الواقع، وعدم التطرق إلى القضية مستقبلا، لكنْ جاء تكليف الرئيس السيسي لرئيس الحكومة مصطفى مدبولي ليثير صدمة لنفس الشريحة، ويعطي أملا في أن الدولة بمؤسساتها المختلفة لن تستسلم بسهولة وسوف تمضي في مسار التجديد بالأمر المباشر.
وقال محمد أبوحامد، البرلماني السابق والباحث في شؤون العقائد، إن وجود إرادة سياسية مستمرة تعطي بصيص أمل في مسألة تجديد الخطاب الديني والاجتهاد، مهما بلغ التحريض الإخواني – السلفي، والعبرة في وجود مواجهة قوية وصلبة من المؤسسة الدينية الرسمية من خلال مساندة أي مفكر أو رجل دين عصري يسعي إلى تنوير بصيرة الناس تجاه قضايا فقهية مسكوت عنها.
وأضاف في حديثه لـ”العرب” أن جزءًا من الأزمة مرتبط بمحاولة بعض المؤسسات الدينية استنزاف جهودها في توسيع قاعدة النفوذ السياسي لها، بالبقاء كجهة لها قوة وهيبة في فرض الوصاية على المجتمع باستسهال الفتوى طوال الوقت، والتدخل في شؤون الناس، ما يعرقل مدنية الدولة، لأن المتشددين مستفيدون من بقاء الهوس الديني للمجتمع مستمرا، بما يعطّل التجديد.
وباتت كل مؤسسة دينية في مصر كأن لديها خطة منفصلة عن توجهات السلطة بشأن حرية الفكر والاجتهاد، فوزارة الأوقاف المعنية بإدارة شؤون المساجد تمادت في تقييد حرية الأئمة في اختيار القضايا التي يتحدثون فيها ولم تدفعهم نحو الاجتهاد، ما جعل منابر السلفيين وجهة لبعض الباحثين عن خطاب مختلف، وإن كان متشددا.
وتراجع منسوب الثقة في توجهات دار الإفتاء لتماديها في إقحام نفسها في قضايا سياسية شائكة، بينما من المفترض أنها بعيدة عن التدخلات الدينية، وكانت النتيجة أنها عندما طرحت استفتاء على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وسألت جمهورها عن الجهة المفضلة لديه للحصول على الفتوى، تبين أن 70 في المئة من الناس يحصلون على فتاواهم من مواقع إسلامية.
وتسبب البطء في تقديم أئمة ودعاة ووعاظ لديهم قدرة على الاجتهاد ويتمتعون بمهارات خاصة ويخدمون متطلبات تجديد الخطاب الديني، في تعرض أي باحث ديني معاصر لهزيمة معنوية بتجييش الغالبية ضده بعد هيمنة العناصر المتطرفة على الفضاء الإلكتروني ونجاح المتشددين في هزيمة الخطاب التقليدي، وهي مشكلة لم تفطن لها مؤسسات دينية انشغلت بعقد مؤتمرات مرتبطة بالتجديد، وخلصت إلى نتائج سلبية.
ويتطلب إنتاج خطاب ديني وسطي إقرار إستراتيجية تتوحد خلفها المؤسسات الدينية، ويتم انتقاء عناصر معتدلة لتقديمها إلى الناس، فتصدر بعض الوجوه المرفوضة مجتمعيا للمشهد يقدم خدمة مجانية لفصيل متطرف يجيد اللعب على تدين المجتمع، ويشوه كل فكر حداثي، أي أن جزءا من المشكلة: ما طبيعة الخطاب المجدّد؟
ويصعب فصل إخفاق المؤسسات الدينية في الوصول إلى نقطة توافق بشأن هوية الخطاب المجدّد عن تأثرها بالضربات المضادة التي يشنها متشددون وأثرت بشكل سلبي على صورة رجل الدين في الشارع، ولم يعد كثيرون يشعرون بالراحة تجاه آرائه حتى أصبح منهكا معنويا وزادت معاناته وأقرانه المجددين، بعدما ترسخت صورة سلبية بأنه تابع للسلطة.
وتظل المعضلة في شريحة تتمسك بالتعاليم الدينية التي ورثتها عن الأجداد وترفض تغييرها، وهو ما تستغله تيارات متطرفة لاستمرار هذه الفئة عند قناعاتها، “فالحجاب فريضة والنار للمسيحيين وفوائد البنوك حرام وزواج القاصر حلال والاختلاط بين الجنسين معصية، مهما كانت طبيعتها”، مستندة إلى نصوص فقهية قديمة تتعارض كليا مع نهج التجديد والاجتهاد.
وأوضح الخبير في شؤون الجماعات المتطرفة منير أديب أن المؤسسة الدينية غير قادرة على تقديم الإسلام الوسطي أو خطاب يفكك أفكار العناصر المتشددة، ولا بديل عن التوسع في الاجتهاد والتعمق في الدين بشكل عصري والكف عن تقديم أي مؤسسة رسمية نفسها على أنها حارس للدين، مع ضرورة البحث عن حلول غير تقليدية لنشر الوعي بين الأجيال الصاعدة التي تشكل الأغلبية السكانية.
وأشار لـ”العرب” إلى أن وجود تكليف رئاسي للحكومة بشأن الخطاب الديني الوسطي، يعني أن المشكلة مازالت مستمرة، وتعامل المؤسسات الدينية مع ملف تجديد الخطاب الدعوي محاط بالتقليدية، وثمة شبه عجز عن استقطاب الشرائح التي تستفتي السلفيين، ما يترتب عليه وجود ممانعات للتنوير ولا يوجد دعم للمجددين من قادة لهم ثقل ديني.
ويطالب مفكرون بحتمية الشروع في تثقيف الأجيال الصاعدة وتوعيتها بتقبل الخطاب الديني الوسطي وإبعادها عن الاستقطاب ناحية المتشددين، فهذه الشريحة عندما تنشأ على توعية دينية معاصرة تكبر على استيعاب الاستنارة والفهم الحقيقي وإعمال العقل، وقد يفشل المتطرفون مع الشخص المستنير ولا يستطيعون الاقتراب منه.
ويفرض ذلك على الحكومة أن توازن بين تجديد الخطاب عبر المؤسسة الدينية والتعليمية كي تحاصر دعاة التراث والفقه القديم من اتجاهات عدة، فالتركيز على الآباء والأجداد فقط وتجاهل الشباب والمراهقين كأكبر قوة في المجتمع يعنيان بقاء الوضع الراهن دون تغيير، مهما تبدلت الوجوه والقيادات المعنية بالملف الديني.
والتحدي الأكبر أمام الحكومة الجديدة يرتبط بإعادة المصداقية لرجل الدين الذي يتصدر مشهد التجديد والعمل على استرداد شعبيته بخطوات عملية لها علاقة بتنقيح التراث وعبر قرارات لا تخضع لمواءمات المؤسسة الدينية، ما يتطلب اختيار وجوه مقبولة مجتمعيا بلا تدخل في عملها، والعكس يُبقي الثغرة التي تنفذ منها التيارات المناهضة للتجديد مستمرة وعلى حالها.
المصدر: العرب اللندنية