يوم طرد لولا «سوبر ماسك» من البرازيل: التكنولوجيا خطراً داهماً على الديموقراطية؟
علي عواد
الثلاثاء 3 أيلول 2024
في عصر الديجيتال اليوم، يكاد يكون من المستحيل مناقشة السياسة العالمية من دون الاعتراف بالقوة والتأثير الكبير الذي يتمتع به عمالقة التكنولوجيا. تكشف المواجهة الأخيرة بين المحكمة العليا في البرازيل ومنصة «إكس» المملوكة من إيلون ماسك العلاقة المعقّدة بين سيادة الدولة وحرية التعبير وسلطة الشركات الرقمية. هذا الصدام، المتجذر في جهود البرازيل لتنظيم المعلومات المضلّلة ودعم القيم الديموقراطية، يُبرز كيفية تأثير منصات التواصل، التي يحكمها عمالقة التكنولوجيا العالمية، على الخطاب السياسي ونسيج الديموقراطية نفسها.
في ظاهر الأمر، يبدو الصراع بين البرازيل و«إكس» أنّه نزاع قانوني، فقد أمرت المحكمة العليا في البرازيل، برئاسة القاضي ألكسندر دي مورايس، شركة «إكس» بتسمية ممثل قانوني لها في البلاد. وعندما فشلت الشركة في تلبية هذا الطلب، منعت المحكمة المنصة من العمل في البرازيل، ما يمثّل تصعيداً كبيراً في الخلاف المستمر بين ماسك والقضاء البرازيلي. مع ذلك، فإن هذه المعركة القانونية أكبر بكثير من مجرّد صراع إداري. فهي تمثل صراعاً على السيطرة على المعلومات والقدرة على تشكيل الرأي العام. يرى ماسك، الذي غالباً ما دافع عن نفسه باعتباره «من دعاة حرية التعبير المطلقة»، أن إجراءات المحكمة تُعدّ رقابةً وانتهاكاً للحقوق الأساسية للتعبير. من ناحية أخرى، يقول دي مورايس ومؤيدوه إن هذه الإجراءات ضرورية لحماية الديموقراطية من انتشار المعلومات المضلّلة والمحتوى المتطرّف، ولا سيما في بلد لا يزال يعاني من الاضطرابات السياسية التي شهدتها رئاسة جايير بولسونارو.
لا يمكن فهم هذا الصراع بشكل كامل من دون النظر إلى السياق الأوسع لكيفية تشكيل عمالقة التكنولوجيا للسياسة. فقد أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل «إكس» أدوات أساسية للتواصل السياسي والنشاط وحتى الحُكم. فهي بمنزلة ساحات رقمية كبرى تحتشد فيها قبائل المستخدمين المتناحرة والمؤدلجة ومنهم المُضلّلة، لتشكيل الرأي العام، والتأثير على الانتخابات، واستيلاد حركات مما هبّ ودبّ. مع ذلك، أثارت القوة التي تتمتع بها هذه المنصة بالتحديد مخاوف كبيرة بشأن دورها في تأجيج أعمال العنف.
في البرازيل، كان استخدام منصات التواصل الاجتماعي من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة، بمن في ذلك أنصار الرئيس السابق بولسونارو، عاملاً رئيسياً في انتشار المعلومات المضللة والتحريض على العنف. أعمال الشغب التي وقعت في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2023 في برازيليا، والتي أعادت إلى الأذهان اقتحام الكابيتول في 6 كانون الأول2021 في الولايات المتحدة من قبل أنصار الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، أجّجتها منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة «إكس»، التي كان ترامب من مستخدميها الدائمين، ولعبت دوراً أساسياً في تنظيم الأصوات المتطرفة وتضخيمها. في هذا السياق، سعت المحكمة العليا في البرازيل إلى مساءلة هذه المنصات، مطالبةً إياها بالالتزام بقوانين البلاد والمساهمة في مكافحة المعلومات المضللة.
تثير المواجهة بين البرازيل و«إكس» أيضاً أسئلة أساسية حول السيادة في العصر الرقمي. اتهم القاضي دي مورايس، ماسك، بمعاملة قوانين البرازيل «بعدم الاحترام الكامل»، واضعاً نفسه «كياناً فوق وطني» محصناً ضد قوانين الدول الفردية. وهذا نقد قوي، يعكس مخاوف أكبر تتعلق بشأن قوة شركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات التي تعمل عبر الحدود مع الحد الأدنى من المساءلة. بالنسبة إلى دول مثل البرازيل، يكمن التحدي في تأكيد السيطرة على هذه المنصات العالمية لحماية عملياتها الديموقراطية، ورفض «إكس» الامتثال للقانون البرازيلي يؤكد صعوبة إنفاذ القوانين الوطنية على المنصات التي يملكها ويديرها أصحاب المليارات في الولايات المتحدة. هذا الصراع ليس حكراً على البرازيل، بل هو قضية عالمية شهدت صدامات مماثلة في دول من الهند إلى الاتحاد الأوروبي، إذ تسعى الحكومات بشكل متزايد إلى فرض قوانين على عمالقة التكنولوجيا لحماية مواطنيها والحفاظ على سلامة ديموقراطيتها.
صحيح أن الدفاع عن حرية التعبير غالباً ما يستشهد به أقطاب اليمين من ترامب إلى ماسك، إلا أنّ هذه القضية توضح التوازن المعقّد بين حماية حرية التعبير ومنع الضرر. ويعكس وصف ماسك لمورايس بأنّه «طاغية» بسبب فرضه القانون البرازيلي، رواية شائعة بين النُخب التكنولوجية التي ترى أن التدخل الحكومي هو بطبيعته قمعي. كما يعكس الفكر الذي يمثله ترامب باعتبار حماية المسحوقين من الرأسمالية المتوحّشة، توجّهاً نحو الاشتراكية. مع ذلك، يتجاهل هذا المنظور المخاوف المشروعة للحكومات المنتخبة ديموقراطياً التي تحاول مكافحة التضليل وحماية مواطنيها من المحتوى الضارّ. في حالة البرازيل، يُنظر إلى تنظيم منصات مثل «إكس» على أنه ضرورية لمنع تكرار المعلومات المضلّلة التي قوّضت انتخابات عام 2022 وأجّجت العنف السياسي. يقول منتقدو دي مورايس بأنّ هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تجاوزات وخنق المعارضة السياسية المشروعة. مع ذلك، يؤكد المؤيدون أنه من دون هذه الإجراءات، سيهيمن أصحاب الأصوات الأعلى والأكثر تطرفاً على الفضاء الرقمي، ما سيؤدي إلى تهديد أسس الديموقراطية نفسها.
ستكون لنتيجة هذه المواجهة بين البرازيل و«إكس» تداعيات كبيرة على مستقبل تنظيم التكنولوجيا والعملية الديموقراطية. فإذا استمرت «إكس» في مقاومة الامتثال، سيشجع ذلك شركات التكنولوجيا العملاقة الأخرى على تحدي القوانين الوطنية، ما يزيد من تآكل قدرة الحكومات على تنظيم فضاءاتها الرقمية. من ناحية أخرى، إذا نجحت البرازيل في تطبيق قوانينها، فقد تشكل سابقة تتبعها دول أخرى، ما يؤدي إلى قوانين أكثر تنظيماً وربما أكثر تجزئة للإنترنت، بكلمات أخرى، البدء في تطبيق مشروع «الويب 3.0» الذي يطمح إلى ضرب مركزية الإنترنت ومنع السيطرة على بيانات المستخدمين من قبل عمالقة التكنولوجيا أو ما يعرف بالخمسة الكبار (آبل، أمازون، ميتا، مايكروسوفت، غوغل)، وتوزيع تلك البيانات حول العالم بشكل لا مركزي.
أصبح واضحاً في هذا العصر الرقمي، أنّ عالم السياسة يتجه نحو الاصطدام بصناعة التكنولوجيا. وهنا، يمكن لنا العودة إلى عالم السياسة والمؤلف الأميركي إيان بريمر، الذي نشر مقالة في مجلة «فورين بوليسي» في 17 حزيران (يونيو) عام 2023، تحت عنوان «القوة العظمى العالمية القادمة ليست كما تظن»، تحدّث فيها عن أن بنية القوة العالمية تشهد تحولاً كبيراً، إذ تنتقل من عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى مشهد معقّد من دون قيادة واضحة. وقد أدى هذا التحول، الذي يغذيه استبعاد روسيا من النظام الغربي، ومقاومة الصين للمعايير الغربية، وتزايد السخط المحلي في الولايات المتحدة وحلفائها، إلى ظهور ثلاثة أنظمة عالمية: نظام أمني أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة، ونظام اقتصادي متعدد الأقطاب ذو قوة مشتركة، ونظام رقمي سريع التطور تلعب فيه شركات التكنولوجيا دوراً محورياً متزايداً. وقد يتوقف مستقبل القوة العالمية على ما إذا كانت هذه الشركات التكنولوجية العملاقة ستتحالف مع الحكومات، أو ستحافظ على إستراتيجيات النمو العالمي، أو تهيمن ككيانات سيادية في نظام «تكنولوجي قطبي» جديد. انطلاقاً من ذلك، يمكن لنا فهم الأحداث المتسارعة في عالم التكنولوجيا، ولا سيما تحوّل إيلون ماسك إلى قطب ومؤثر يميني مؤيد لترامب، واعتقال مؤسس «تليغرام» في فرنسا، وخلاف ماسك مع البرازيل، بالإضافة إلى تهديد ترامب لمارك زاكربيرغ بالسجن. إنّها مطحنة كبيرة يُطحن فيها الرقمي والواقعية السياسية والمصالح والأنظمة الاقتصادية... كل ذلك والعالم في انتظار ما سيأتي.
المصدر: الأخبار