خطاب الكراهية ينتج خطابا موازيا عند الآخر
محمد جبير
الأربعاء 31 تموز 2024
إن إعادة قراءة الأدب الفيتنامي شعرا أو رواية أو قراءة الأدب الأفغاني الحديث أو السرديات الروائية العراقية والعربية في بلدان مختلفة، سوف توفر لنا رؤية مناسبة للتعرف على طبيعة خطاب المتلقي الرافض لمنطق خطاب الذات الأميركية الذي بني على مفاهيم القوة والهيمنة، وابتعد عن منطق الحرية واحترام حقوق الإنسان وإشاعة الممارسة الديمقراطية في تلك البلدان التي يتوجه لها خطاب الذات الأميركية.
وحين أدرك بعض المفكرين والمثقفين الحداثيين الأميركان هذا التقاطع الجوهري والحاد بين الخطابين، حاولوا أن ينظروا إلى المسألة من زاوية رؤية جديدة، وتقديم مشروع خطاب جديد قد يغير صورة أميركا في العالم الإسلامي، بعد أن أدركوا قوة ذلك الخطاب وتمظهراته في الفنون الإبداعية التي كانت أكثر إقناعا من الخطاب السياسي المعادي والسائد في فترات طويلة، إذ بدأ ظهور تيارات أدبية من داخل أميركا ترفض خطاب الكراهية والعنف والتمييز العنصري وتعود إلى خطاب العدل والحرية والمساواة الذي شاع في النصف الثاني من القرن الماضي، وهو ما أُطلق عليه اصطلاحاً بالأدب الأميركي التقدمي، وهو الأدب الذي رفض توجهات الخطاب الأميركي المضاد لحرية شعوب العالم أو فكرة الاستعباد والاستغلال.
الخطاب المؤدلج والصهيونية
لقد أثارت قرارات ترامب (في زمن رئاسته للولايات المتحدة الأميركية) جدلا في الداخل الأميركي وخارجه مما شكل نقطة خلاف جوهري بين مؤيد ومعارض لما جسدته تلك القرارات من هوة ثقافية وفكرية في مسيرة الولايات المتحدة منذ تأسيسها قبل ما يقرب من الـ400 عام، وهو الأمر الذي أدى إلى وجود خطابين فكريين الأول رافض للنزعة الإقصائية لترامب ومتمسك بالخطاب الثقافي الأميركي المنفتح على الآخر، وخطاب داعم لنزعة ترامب الذي لا يختلف بالضرورة عن الخطاب الإقصائي الذي ساد في المجتمع الأميركي إبان المرحلة «المكارثية» التي تسببت في شق الصف الثقافي الإبداعي الأميركي وأدت إلى تصفية الكثير من الكتاب الأميركان التقدميين.
ولا تبتعد هذه القرارات عن التمييز العنصري بين البيض والسود، وقام الكثير من الكتاب الأميركان المناهضين للخطاب الإقصائي المتمثل بالمكارثية أو التمييز العنصري، بتحويل النتائج المدمرة لتلك السياسات إلى أعمال إبداعية في الرواية الأميركية، لاسيما ريتشارد رايت في نصه التاريخي «الولد الأسود»، وفي الأعمال الشعرية والمسرحية والفنون الإبداعية الأخرى. ولم تستطع تلك النزعة الإقصائية التي عدت مرحلة سوداء في تاريخ الحرية الأميركية، بلورة وجودها الثقافي والإبداعي والإنساني، أو تنتج ثقافة مضادة، في وقت كانت تعيش فيه أوروبا حالة من التحرر الإنساني الرافض لسياسات التهميش والإقصاء على أساس اللون أو العرق أو الدين.
لم تكن هذه التجارب التي مرت بها أميركا بالبعيدة زمنيا، وإنما عاشها الكثير من ساسة اليوم وأدركوا مخاطرها على المجتمع الأميركي الذي يعيش خليطا من ثقافات متنوعة، لذلك ليس غريبا أن يطلق صموئيل هنتنغتون تحذيراته المتعلقة بما أسماه صراع الحضارات، أو كيسنجر عبارته الشهيرة «من يسيطر على نفط الشرق الأوسط يسيطر على العالم» في سبعينات القرن الماضي.
لقد تربى العقل العربي الإطاري المؤدلج منذ أكثر من قرن على مبدأ المعاداة للمشروع الأميركي، بوصفه مشروعاً استعمارياً استيطانياً بتأسيسات فكرية واقتصادية وثقافية. وأمام الانفتاح العام للعالم على وسائل الاتصال الحديثة التي جعلت من العالم قرية صغيرة، وسقوط رهانات الإطارات السياسية بمختلف اتجاهاتها والانتقال من التفكير في الكون إلى مشروع التفكير بالإنسان بوصفه مركز هذا الكون وقدراته الخلاقة، انطلقت طروحات الحداثات الفكرية والثقافية والفلسفية من المدرستين الألمانية والفرنسية الحديثة التي أعادت للإنسان صفته المحورية في إدارة وتفسير النشاطات الكونية، بعيداً عن الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة من توهمات فكرية، بعد أن أدى التقدم الحضاري والإنساني للمجتمعات العصرية إلى إنتاج حضارة حداثوية مزقت أكفان المقدس وفتحت الأفق واسعاً أمام ما هو واقعي وإنساني.
لقد تمكنت المجتمعات الأصيلة والراسخة في عمق التاريخ من إنتاج تاريخها الثقافي والفكري والحضاري والإنساني وأكدت نموها وتصاعدها وتجاوزها للإشكالات والمشاكل الدنيوية والدينية لتبني حضارة متجددة، في الوقت الذي كانت فيه دول في الشرق حاضرة ومتقدمة واضمحلت وظهرت في المقابل مدن في أوروبا أصبحت مراكز إشعاع للعلم والحضارة.
لقد اكتشف كريستوفر كولومبس «قارة أميركا» التي كان يسكنها «الهنود الحمر»، السكان الأصليون لتلك القارة المكتشفة حديثا في العام 1492 لتكون بعد ذلك موطئ قدم للمهاجرين من مختلف أنحاء العالم قبل أن يتم الإعلان عن ولادة الولايات المتحدة، التي بنيت بجهود المهاجرين، وفناء السكان الأصليين كي يعاد بناء تاريخ هذه البقعة الجغرافية من العالم وإعادة صياغة المفاهيم العامة وفق خليط الثقافات الوافدة من قارات وبلدان العالم المختلفة.
هذا التنوع الثقافي والعرقي والفكري الذي انصهر في بوتقة وطن مشترك أنتج ثقافته الخاصة الناتجة من ذلك الخليط المشترك، وفي قراءة تطور الفكر الغربي الأوروبي الذي كان متجاوزا لكل الخطوط الحمراء في الفكر والثقافة، لاسيما في ألمانيا وفرنسا لاحقا، لذلك اتجهت هذه الدولة، بعد أن تجاوزت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، إلى إعادة صياغة المفاهيم الوطنية للشعوب الأميركية من خلال الدستور الذي سُن في العام 1788، ليبقى بمثابة المرجع لكل مواطن أميركي يعيش على أرض الولايات المتحدة.
لقد أصبحت أميركا، من وجهة نظر الأحزاب العربية القومية واليسارية في العصر الحديث، كيانا إمبرياليا داعما ومساندا للحكومات المستبدة لتحديد اتجاهات السياسية العربية أو الشرق أوسطية، سواء في زمن القطبين والحرب الباردة، أو في زمن القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينات من القرن الماضي، ليكون العالم أميركيا بالمطلق، في ما أعلن الصهاينة أن القرن الحادي والعشرين سيكون يهوديا بامتياز.
وأرادت الكثير من المؤسسات الثقافية، لاسيما تلك المؤسسات التي روجت للثقافة الأميركية، أن تشيع الخطاب الثقافي الأميركي وخلق رواد متبنين لهذا الخطاب والترويج له في الأوساط الثقافية مقابل الخطابات الفكرية الأخرى المناهضة، الأمر الذي أدى بمنظري السياسة الأميركية إلى طرح الخطاب العابر للقارات عبر إشاعة فكر العولمة في تعدديتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، والذي جاء متزامنا مع الانفتاح على الخطاب الثقافي الصهيوني لمنظرين يهود نُشرت حيثياته في عدد من الصحف والمجلات العربية التي كانت تصدر في بيروت أو القاهرة تحت مسوّغ الاطلاع على الإنجازات الإبداعية للآخر والتعرف على مستوى التفكير في صورته من وجهة النظر الصهيونية أو الأميركية، وكان متمثلاً بترجمة العديد من الروايات والأعمال الشعرية لكتاب من الداخل الإسرائيلي.
شكلت السياسات العامة للإدارة الأميركية في عهدي بوش الأب والابن وفي عهدي كلينتون وأوباما كذلك، خطوات تمهيدية لفرض الهيمنة الصهيونية على الإدارة الأميركية ورسم آفاق تلك السياسات، لاسيما في الشرق الأوسط من خلال التوجه نحو تفكيك تلك البلدان وإضعافها بما يجعل أكبر دولة في الشرق الأوسط أصغر من دولة إسرائيل من حيث المصالح والجغرافيا والوزن الدولي، لضمان أمن إسرائيل الدائم، لذلك أطلق على بعض الدول في التسعينات من القرن الماضي على أنها محور الشر ومن بين تلك الدول إيران والعراق وسوريا ودول أخرى.
لقد دفع الاعتداء الإرهابي على برجي التجارة في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 بالإدارة الأميركية إلى تغيير النظام في أفغانستان وتبني مشروع تحرير العراق، وقد أدت تلك الخطوات إلى إسقاط حكم طالبان في أفغانستان وإسقاط نظام البعث في العراق في 9 أبريل 2003، بدعوى تأسيس الأنموذج الديمقراطي الجديد في المنطقة، إلا أن هذه الجهود وبعد أعوام أثبت فشلها في العراق، على الرغم من حجم الدعاية السياسية والإعلامية الضخمة التي قادتها الولايات المتحدة، ولم تستطع الحكومات التي سبقت تولي ترامب سدة الرئاسة الأميركية في التصريح بالفشل، إذ ترى إدارة ترامب بطاقمها السياسي والعسكري أن السياسات الأميركية في غزو العراق بالذات كانت خطأ جسيماً، وبدل أن تتمكن الولايات المتحدة من بناء نموذج ديمقراطي في العراق تحول الأخير إلى دولة إرهابية من وجهة نظر هذه الإدارة.
لقد شكلت قرارات ترامب السابقة بمنع رعايا سبع دول من بينها العراق وإيران وسوريا من دخول الأراضي الأميركية صدمة كبيرة لكل من تبنى فكرة الاحتلال الأميركي للعراق ووصفه بالتحرير، إذ مثلت تلك القرارات خطاً فاصلا بين خطابي الاحتلال والتحرير الذي أراد أن يسوقه عدد من المثقفين العراقيين ممن جاؤوا مع الاحتلال لتنفيذ خططه الإقصائية للخطاب الثقافي العراقي الذي بقي واضحا وجريئا عبر نصوص سردية روائية وشعرية رافضاً لرؤى وتوجهات المثقف الوافد والمتبني للمشروع الثقافي الأميركي.
لقد جاءت هذه الصدمة من الحليف الإستراتيجي للحكومات العراقية بعد الاحتلال، قوية ومباغته وغير متوقعة للساسة الجدد في العراق الذين راحوا يتساءلون مع المواطن العراقي العادي، هل أن أفغانستان التي كانت منبعا للإرهاب وتصديره إلى العالم، أفضل من العراق في نظر ترامب؟ وكيف أصبحنا دولة إرهابية بامتياز بفضل السياسة الأميركية التي سلمت العراق لقمة سائغة إلى الإيراني؟
أميركا قبل المهاجر
يرى ترامب أن مصلحة أميركا اليوم تكمن في الحفاظ على أمنها القومي وأمن شركائها وحلفائها، وأن مصدر الخطر على الحلفاء والشركاء والأمن القومي الأميركي يأتي من الشرق، لاسيما دول الشر مثل «إيران والعراق وسوريا»، وهي تلك الدول التي تحمل خطابا إسلاميا متطرفا يشكل تهديدا للمصالح الأميركية في المنطقة، كما أنها تشكل تهديدا مباشرا لأمن إسرائيل.
وبقدر ما كانت القرارات الأميركية رسالة موجهة إلى الخارج وإلى رعايا تلك البلدان بشكل أساس، إلا أنها موجهة أيضاً إلى الداخل الأميركي في محاولة لإعادة صياغة ما سُمّي بالوعي الوطني وتبني خطاب الأنا الذاتي الخاص، لذلك فإن الإدارة الأميركية في إطارها الفكري الصهيوني العام لا ترغب بالاتفاق النووي الإيراني الذي رفضته منذ البداية ودفعت ترامب إلى تمزيق هذا الاتفاق والدفع للمواجهة العسكرية مع إيران التي تجنبها أوباما طوال ثماني سنوات من حكمه للولايات المتحدة.
وهنا لا بد لنا من القول إن هذه القرارات وما أثارته من ردود أفعال متناقضة في الولايات المتحدة، سوف تؤدي إلى زيادة العنف والكراهية المقابلة بين شعوب البلدان المختلفة، ذلك أن خطاب الكراهية لا بد أن ينتج خطابا موازياً عند الآخر.
ويبقى السؤال الأهم، ما الذي ستجنيه أميركا من وراء هذا الخطاب الجديد أو المختلف عما طرحته الإدارات الأميركية السابقة؟ إن النظرة الأميركية لمعنى «الوطنية والحفاظ على الهوية» تختلف كليا عن نظرة الإنسان الشرقي الازدواجية التي تشتم السياسية الأميركية في العلن ويتمنى العيش فيها في الخفاء، حتى أن بعض المثقفين العرب حين يعرفون أنفسهم بالتوصيف الآتي «كاتب عربي ومواطن أميركي» والمواطنة الأميركية تنفي عنه الصفة العربية إلا أنه يبقى يعيش ازدواجية الموقف وليس الثقافة.
ووفق ما تقدم لا يمكن للشرق أن يفسر وفق تصوراته القرارات الأميركية التي تريد أن تبني إستراتيجيات أو أجندات سياسية لمعالجة إشكالات الإدارة الأميركية السابقة التي حدثت في الشرق الأوسط جراء التمهل في اتخاذ مواقف حاسمة.
المصدر: العرب اللندنية