«الجبهة الشعبية الجديدة»: نظرة من الداخل
علاء اللامي
الجمعة 19 تموز 2024
كانت «الجبهة الشعبية» القديمة لأحزاب اليسار في فرنسا قد شُكّلت سنة 1936 بزعامة ليون بلوم، من ذات الأحزاب اليسارية تقريباً التي شُكّلت منها «الجبهة الشعبية الجديدة» (الحزب الشيوعي - الحزب اليساري الرديكالي والذي تأسّس سنة 1901، ومنه خرج الحزب الاشتراكي الفرنسي لاحقاً، وقوى يسارية صغيرة أخرى). وكان برنامجها الطبقي يتضمّن القيام بتأميمات واسعة أكثر جذرية، إضافة إلى الطابع الاستثنائي لها وهو صدّ الخطر الفاشي الوشيك حيث كانت نذر حدوث انقلاب عسكري فاشيّ آنذاك تلوح في فرنسا. أمّا «الجبهة الشعبية الجديدة»، فقد تأسّست استجابة لتحدّ عاجل وطارئ فور قرار الرئيس الفرنسي ماكرون حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات عامّة خلال ثلاثة أسابيع، وهذا التحدّي هو التقدّم الهائل والمهدّد الذي أحرزه اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية، وهذا ما جعل الجبهة تأخذ طابعاً استثنائياً وطارئاً من قبل أحزاب اليسار وبمبادرة من حزب يساري جديد نسبياً هو «فرنسا الأبية» (أو الأدق: فرنسا غير الخاضعة la france insoumise party)، بزعامة جان لوك ميلونشون. وقد جاءت هذه المبادرة متساوقة مع دعوة مبكرة لمارين تونديلييه (37 عاماً)، زعيمة حزب «أوروبا البيئوية» (الخضر). ويبقى ميلونشون، المولود في طنجة المغربية في عام 1951 من أبوين فرنسيين ولدا في الجزائر (وانتقل أبوه للعمل في الأندلس جنوب إسبانيا)، والخطيب المفوّه والمتمسك بخطاب أممي تضامني مع الشعوب المضطهدة وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني والمناوئ بعمق للرأسمالية المتوحشة، هو المهندس الفعلي الذي قاد بمعية رفاقه المؤسسين عملية تشكيل هذه الجبهة وقيادة حزبه نحو الفوز بالمركز الأوّل داخل الجبهة التي احتلت، بدورها، الترتيب الأوّل على مستوى الجمهورية.إضافة إلى ذلك، فالجبهة تحمل اليوم برنامج الحد الأدنى، والذي يخلو من الشعارات الجذرية القديمة كالتأميمات الواسعة والكثيفة وفرض ضرائب تصاعدية ثقيلة على الرأسماليين، واكتفى برفع أهداف مطلبية لها أهميتها التي لا تُنكر وأدرج في برنامجها الانتخابي فرض ضرائب تصاعدية كما سيلي بيانه، ومن تلك الأهداف:
1-إلغاء قانون سن التقاعد الماكروني وخفض التقاعد إلى سن الستين عاماً. وقانون سن التقاعد الأخير هو الذي كان التحالف اليساري السابق في عهد ميتران قد أقرَّه، وتم التراجع عنه لاحقاً من قبل الاشتراكيين أنفسهم وتلقّف الرؤساء اليمينيين ذلك التراجع وكرَّسوه.
وكان ماكرون قد التجأ إلى المادة 49/ الفقرة الثالثة من الدستور الفرنسي لتمرير هذا القانون. وتتيح هذه المادة من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لعام 1958 للحكومة تبني مشروع قانون دون اللجوء إلى موافقة البرلمان، مرة واحدة في السنة.
2-رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو.
3-خفض أسعار المواد الغذائية الأساسية ورفع القدرة الشرائية لليورو.
4-وضع سُلَّم تصاعدي لضريبة الدخل لتكون بموجب مقياس مؤلّف من 14 درجة، عوض 5 درجات حالياً. بموجبه فإن المواطنين الذين يكسبون أقل من 4000 يورو شهرياً سيدفعون ضرائب أقل بينما سيدفع الآخرون من ذوي الدخول والثروات الأكبر ضريبة أكبر.
إضافة الى أهداف أخرى منها الاعتراف بدولة فلسطين، والعمل من أجل «الحصول على وقف إطلاق النار في قطاع غزة» كما ورد حرفياً في برنامج الجبهة. وفرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية «طالما أنها لا تحترم القانون الدولي في غزة والضفة الغربية»، وتدعو إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل «المشروطة باحترام حقوق الإنسان».
كما تعتزم الجبهة تسهيل الحصول على التأشيرات، وتنظيم هجرة العمّال والطلاب وإنشاء تصريح الإقامة لمدّة عشر سنوات كتصريح إقامة مرجعي ومراجعة ميثاق اللجوء والهجرة الأوروبي لضمان «استقبال كريم للمهاجرين».
خلفية تأريخية لتجارب وحدة اليسار
إنّ تجربة الجبهة، على الرغم من طابع تأسيسها الاستثنائي وبرنامجها العاجل والهادف أولاً إلى صدّ اليمين المتطرف ومنعه من الوصول إلى السلطة، ليست التجربة التحالفية الأولى لليسار الفرنسي. فهي تذكّرنا بتحالف يساري فرنسي آخر مشابه، إضافة إلى الجبهة الشعبية القديمة لسنة 1936، وهو التحالف الذي حمل اسم «اتحاد اليسار»: تشكّل سنة 1972 تحضيراً لخوض انتخابات 1973 وخسر تلك الانتخابات، فعادت أحزاب اليسار لمحاولة إحياء الاتحاد قبل انتخابات 1978 ولكن المحاولة انتهت إلى الفشل بعد خلافات برنامجية حادة بين الاشتراكيين والشيوعيين. ودخلت أحزاب اليسار في الانتخابات متفرقة ولم تحرز نتائج جيدة آنذاك. ويبدو أنها استفادت من هذه التجربة فشكّلت تحالف 1981 الذي حمل فرانسوا ميتران الاشتراكي -وهو في الحقيقة من يمين اليسار وكان وزيراً للمستعمرات وله موقف استعماري عدائي ضدّ الثورة الجزائرية- إلى الرئاسة.
بعد تلك الانتخابات الرئاسية ومجيء ميتران، أقدم هذا الأخير على حلّ البرلمان ودعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة. وفاز فيها تحالف اليسار وتشكّلت حكومة يسارية من «الاشتراكي» و«الشيوعي» وحصل الشيوعيون على أربع وزارات فيها، ولكنهم خسروا أنفسهم وساءت سمعتهم بين العمّال والكادحين وبدأت رحلة هذا الحزب نحو الضمور والتلاشي وخسارة القلاع اليسارية العمّالية في الشمال والوسط وفي نقابات «CGT» التي كان يقودها الشيوعيون حتى صارت نتائجه في دورات الانتخابات اللاحقة تدور حول 5%.
وقد حصل الحزب في الانتخابات الأخيرة على تسعة مقاعد فقط، في حين حصل اليساريون المستقلون على 13 مقعداً، و«الخضر»، الصغير حجماً وعمراً سياسياً، على 33 مقعداً، و«الاشتراكي»، بتياراته الثلاثة، على 64 مقعداً، و«فرنسا الأبية» على 78 مقعداً، وفق الأرقام المعلنة حتى الآن.
وقد جاءت النتائج الجديدة التي أحرزها «الاشتراكي»، بتياراته الثلاثة، مفاجئة تماماً وأكثر من المتوقّع، أمّا نتائج «فرنسا الأبية» فقد كانت متوقّعة. وعموماً، فقد كانت نتائج الجبهة ستكون أكبر مما حصلت عليه لولا أنها لجأت إلى تطبيق تكتيك انسحاب المرشح الثالث إذا كان من مرشحيها لقطع الطريق على فوز مرشح اليمين المتطرف حتى إذا أدى هذا الانسحاب إلى فوز مرشح اليمين الجمهوري أو حزب ماكرون. وقد ترتّب على هذه الانسحابات لأكثر من مئة مرشح خسارة للجبهة تُقدّر بعشرات النواب، أمّا حزب ماكرون، والذي طبّق هذا التكتيك أيضاً، فقد كانت خسائره أقل من ذلك.
تيارات داخل الحزب الاشتراكي
في ما يتعلّق بالحزب الاشتراكي، وهو الذي تكوّن بعد انشقاقات وتطوّرات حدثت في حزب اليسار الراديكالي في بدايات القرن الماضي حيث انشقّ منه الحزب الاشتراكي الحالي، لا يزال قسم منه يحمل الاسم ذاته ويقوده أوليفيه فور وحجمه الانتخابي صغير. والتيار الثاني في الحزب، يحمل اسم «الساحة العامة» ويقوده رافائيل غلوكسمان وهو الأكبر وزناً انتخابياً والأقرب من الرئيس الأسبق والعائد الآن كنائب في البرلمان الجديد، فرانسوا هولاند، وهذا التيار يحمل نزعة صهيونية واضحة ويدافع عن الكيان الصهيوني ويناهض التوجهات الأممية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني لدى قيادة حزب «فرنسا الأبية» وغيرها. إضافة إلى أنه لا يرى مانعاً من التحالف منفرداً مع حزب ماكرون وأحزاب وسط اليمين الأخرى. التيار الثالث، يطلق على نفسه «الجيل» ويقوده هامون بنوا، وهو تيار متواضع الحجم ولكن توجهاته السياسية المعلنة جيدة، علماً أن نواب «الاشتراكي» لا يُنسبون إلى تياراتهم بل إلى الحزب ككل في البرلمان وفي نشاطاتهم العامّة ويكونون كتلة نيابية واحدة ضمن كتلة الجبهة الشعبية الجديدة.
أمّا الحزب الشيوعي، بقيادة فابيان روسيل الذي فشل في الاحتفاظ بمقعده البرلماني وخسره أمام خصمه اليميني المتطرف، فيبدو أن قيادة هذا الحزب محكومة بعقدة تنافسية نحو حزب ميلونشون، وترى أن هذا الحزب قد انتزع منها مكانتها وجمهورها وقد لا تتردّد في الانشقاق والخروج من الجبهة إذا ما قرّر الحزب الاشتراكي أو أحد تياراته المهمّة ذلك!
يمكن الإشارة، ما دمنا بصدد مواقف ونتائج حزب ميلونشون والجبهة التي بادر إلى تشكيلها، إلى أن هناك مبالغات كثيرة تُنشر في الصحافة -العربية خصوصاً- في مواقف الجبهة تجاه فلسطين والحرب في أوكرانيا. فإذا كان من الصحيح القول إنّ ارتفاع نسبة التصويت من طرف جمهور الجاليات العربية والمسلمة وتصويت هذا الجمهور بكثافة لمصلحة الجبهة، فهذا لم يكن السبب الرئيسي أو الفاعل في فوز الجبهة والحزب بالمرتبة الأولى (التي نعود إلى التذكير بأنها بعيدة عن الغالبية النسبية بقرابة مئة مقعد). ولكن مواقف الجبهة، وخصوصاً المواقف الأممية الشجاعة وغير المساومة لميلونشون ورفاقه المقربين، بمقدار ما أثارت تأييد هذه الجاليات العربية والمسلمة، فإنها نفَّرت وأبعدت عنها بالمقابل قطاعات ليست هينة من جمهور الطبقة الوسطى والعمال والشباب الفرنسيين الذين كانوا يصوّتون لليسار عادة، ودفعتهم إلى التصويت لمصلحة اليمين أو حتى داخل الجبهة ولكنهم لم يصوّتوا لحزب ميلونشون بل راحوا يصوّتون لـ«الاشتراكي» (الذي أحرز نتيجة فاجأت حتى قياداته) ولـ«الخضر» تحت تأثير الاتهامات بالعداء للسامية (والتي صارت تعني العداء الصهيونية المتطرفة) وتأييد الإرهاب. وقد تم استغلال تصريحات لميلونشون رفض فيها وصم «حماس» بالإرهاب وأصرّ على وضع هجوم 7 أكتوبر في سياقه التاريخي الصحيح؛ سياق مقاومة احتلال استعماري. وقد انْتُقِدَ ميلونشون حتى داخل حزبه وداخل الجبهة من قبل بعض رفاقه على هذه التصريحات.
«فرنسا الأبية» من الداخل
يضاف إلى هذه الحالة الخلافات القديمة بين أعضاء قيادة حزب «فرنسا الأبية» والاتهامات التي تُوجّه إلى قائدها بالفردانية والإجراءات والتصريحات الحادّة، ومنها معاملة المختلفين معه بتشنّج، ما أدّى إلى خروج بعضهم، منهم من القيادة، دخل أربعة منهم الانتخابات منفردين وقد فازوا كلهم فيها، ودخل ثلاثة منهم ضمن مرشحي الجبهة ثم انفصلوا عنها وفازوا أيضاً بمقاعدهم، وهؤلاء هم: فرانسوا روفان، كليمونتين أوتان (حتى بعد انسحابها من الجبهة ظل الإعلام الصهيوني الهستيري يلاحقها ويستفزها فأطلق عليها «نائبة عن حركة حماس مع شعار (SS) الخاص بقوات العاصفة النازية)، وألكس كوبير، كليمانس غوتيه، هندريك دافي، راكيل غاريدو ودانيل سيمونيه. وهذه الرفيقة الأخيرة كانت عضواً في المجلس البلدي لمدينة باريس، ومن مآثرها أنها وقفت ضدّ محاولة إطلاق اسم «أورشليم القدس» على إحدى ساحات العاصمة الفرنسية، واعترضت هي والشيوعي بيير لوران على القرار وطالبت بإضافة عبارة إلى الاسم تقول: «مع أمل أن تكون عاصمة للدولتين».
والحقيقة أن الخلافات بين أعضاء قيادة ونواب «فرنسا الأبية» المذكورين لا تتعلّق بخلافات فكرية وبرنامجية كبيرة ومهمة بقدر ما تتعلّق بردود فعل على قرارات عقابية تُتخذ بحقهم من قبل الغالبية المؤيّدة للقائد ميلونشون ثم تضخمت وبلغت نقطة اللاعودة والقطيعة التامة.
لقد شنّ الإعلام اليمنيي والبرجوازي الجمهوري والمؤسّسات الإعلامية الصهيونية، أو المتصهينة، حملة تشويه وتشنيع واغتيال معنوي لا سابق لها في فرنسا، وكان المستهدف فيها بشكل خاص «فرنسا الأبية»، وكانت حصّة الأسد من هذا الاستهداف لقائده ميلونشون. فقد جعلوا منه معادياً للسامية وديكتاتوراً يشبهونه بروبسبير، وحتى بعض رفاقه في الجبهة أو من التيار المتصهين في الحزب الاشتراكي وجّهوا إليه انتقادات مباشرة أو تلميحات من هذا النوع.
ثم إن هناك أيضاً مبالغة وانعدام توازن في عرض مواقف وأفكار الجبهة الشعبية؛ فمثلاً يتم إغفال موقف الجبهة من الحرب في أوكرانيا وهو لا يختلف كثيراً عن سائر الأحزاب السياسية الفرنسية حيث تدعو الجبهة في برنامجها الانتخابي إلى «الدفاع بلا كلل عن سيادة الشعب الأوكراني وحريته وكذلك سلامة حدوده»، من خلال تسليم الأسلحة «الضرورية»، وإلغاء ديونه الخارجية، والاستيلاء على أصول القلة من الروس «الذين يساهمون في المجهود الحربي الروسي»، وإرسال قوات حفظ السلام لتأمين محطات الطاقة النووية، ويتم الاكتفاء بعرض موقف زعيم «فرنسا الأبية» المحذّر من الصدام من روسيا ودعوته إلى البحث عن حل سلمي للصراع لأن «الحرب مع روسيا لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى تدميرنا الكامل. وواجبنا هو البحث عن وسائل للحوار حول السلام، وهو أمر ممكن تماماً» كما قال (الصحافة، في 6.4.2024).
كما يتم إغفال أنّ أطرافاً في الجبهة، وخصوصاً بعض قادة «الاشتراكي»، يؤيّدون إسرائيل ويدافعون عن سياساتها العدوانية ويعتبرون المقاومة الفلسطينية نوعاً من الإرهاب.
وأخيراً، أعتقد أنّ مَن يريد أن يعرض المشهد الفرنسي السياسي العام، واليساري منه خصوصاً، ينبغي عليه أن يكون موضوعياً وشمولياً ومتوازناً في قراءته وعرضه للوقائع على الأرض.
المصدر: الأخبار