العلمانية
مُدان وخَرِف... وديمقراطية ليبرالية

ملاذ اليوسف

الأربعاء 10 تموز 2024

«لسنا بحاجة إلى الدفاع عن الادّعاء القويّ بأنّ الجدارة السياسية تقود بشكل ثابت إلى نتائج أفضل ممّا في حالات الديمقراطية الانتخابية (الليبرالية)»دانييل بيل، «نموذج الصين: الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية»
 
في مقال الكاتب مهدي عقيل، المنشور في «الأخبار» الأربعاء الماضي، نقطة مهمّة لا بدّ من التوقّف عندها. يتحدّث عقيل عن «حاجة» الولايات المتحدة إلى إيجاد مؤسّسة تشبه «مجلس صيانة الدستور» الموجود في إيران والذي يعمل على «غربلة المرشحين» اعتماداً على معايير محدّدة مِثل «سلوك المرشّح ووضعه الاجتماعي والعلمي والثقافي والذهني والصحّي أيضاً، ومدى خبرته على مختلف الصعد التي تستدعي أن يتمتّع بها كلّ مَن يتولّى منصباً عامّاً، ولا سيما المنصب الثاني بعد المرشد في الجمهورية».
 
 
إنّ المهمّ في كلام عقيل، هو ليس حاجة الولايات المتحدة إلى هكذا مجلس، فهذا مستحيلٌ على اعتبار أنّ الولايات المتحدة، كما أشار الكاتب، تعتبر وجود هكذا مجلس انعداماً للديمقراطية الليبرالية، بل الأهمّ، في كلامه، هو الحاجة إلى التعريف بالميرتوقراطية Meritocracy (نظام الجدارة السياسية)، على اعتبار أنّ «مجلس صيانة الدستور» الإيراني ما هو إلا شكل من أشكال الميرتوقراطية. ذلك نظراً إلى ما تُحْدِثه الديمقراطية الليبرالية في العالم اليوم، وما قد تخلّفه من صعود لليمين المتطرّف في غرب أوروبا، وما سيترتّب على ذلك في المستقبل، ونظراً إلى كمّية اللامعقول التي قدّمتها الانتخابات الأميركية ممثّلة بمناظرة تلفزيونية جمعت ما بين بايدن وترامب.
 
 
للتمهيد لفهم «نظام الجدارة السياسية»، اعتمد دانييل بيل، وهو المنظّر السياسي والأستاذ الجامعي، في تقديم كتابه «نموذج الصين: الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية» (ترجمة عماد عواد، منشورات «عالم المعرفة») على محتوى فيديو نُشر عام 2013، وانتشر حينها حول العالم، يصوّر الصعود السريع والمفاجئ «كالنيزك» لشخص مجهول وليست لديه خلفية سياسية واسمه باراك أوباما إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة في حينها، وما أشبه البارحة باليوم عندما نسمع أخباراً عن تهيئة ميشيل أوباما لتكون خلفاً للخرف بايدن.
 
 
وفي المقابل، يعرض مقطع الفيديو، من باب المقارنة، كيفية وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قمّة السلطة «عبر مسيرة استمرت عقوداً: حيث رُقّي من المستوى القيادي المحلي إلى مستوى المدينة، ثم المقاطعة، ومستويات إدارية، لينتقل بعد ذلك إلى درجة وزير على مستوى الإقليم، وتلت ذلك عضوية اللجنة المركزية للحزب، فالمكتب السياسي، ومنه إلى موقع القيادة في اللجنة المركزية للمكتب السياسي للحزب»، مع التأكيد على أنه وفي كل «مرحلة من مراحل ترقيته كان يخضع لعملية تقييم جادّة تقوم على المنافسة بغرض قياس إمكاناته في القيادة السياسية». ثم يقول إنّ «الهدف الأساسي لهذا المقطع تمثّل في الترويج للنظام الصيني القائم على الجدارة باعتباره مستنداً إلى طريقة مشروعة أخلاقياً لاختيار القادة السياسيين على مستوى القمّة، وهو النظام الذي ربما قد يكون أفضل من الانتخابات الديمقراطية».
 
 
نظام الجدارة السياسية نظام سياسي تُسنَد فيه السلطة السياسية إلى الأفراد على أساس الكفاءة والجهد المبذول والإنجازات المتحقّقة لا على أساس الثروة أو الطبقة الاجتماعية. وعلى عكس الديمقراطية الليبرالية («شخص واحد – صوت واحد» يقال إنها تمثّل الأغلبية في المجتمع، أي لا تمثّل المجتمع ككلّ. والدولة البورجوازية لَم ولن تمثّل المجتمع ككلّ فهي جهاز لحماية طبقة بعينها)، نجد أن الميرتوقراطية -التي تعمل وفق المبدأ القائل «من كل شخص وفقاً لقدراته، ولكل شخص وفقاً لمساهمته»، وهذا المبدأ يُعمل به في الطور الأدنى من الشيوعية (الدولة الاشتراكية)- لا تعترف باختلاف الطبقات وتحاول أن تمثّل المجتمع ككلّ. وبالرغم من عيب هذا المبدأ الذي يعترف بطريقة ضمنية بالمواهب غير المتساوية بين الأشخاص، إلا أنه يُعتبر ضرورة لا بدّ منها للوصول إلى المرحلة العليا من الشيوعية حيث يمكن تحقيق مبدأ: «من كل وفقاً لقدرته، ولكل وفقاً لاحتياجاته» (لينين، «الدولة والثورة»). وهذا لا يعني أنّ نظام الجدارة السياسية خالٍ من الديمقراطية الانتخابية حيث نجد أنّ الديمقراطية الانتخابية بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني تبدأ من القاع (أي توجد انتخابات مجالس محلية قائمة على التصويت) أمّا الجدارة فتكون في القمّة. وهذا لا يعني أيضاً ألّا يوجد نموذج خليط ما بين الديمقراطية السياسية والميرتوقراطية كما تم تقديمه في نموذج سنغافورة، حيث إنّ النظام الانتخابي يشابه نظام الانتخابات الإيراني؛ فالتصويت موجود ولكن الترشيح يتمّ بضوابط ومعايير محدّدة، وهذا ما قد ننصح به بلاد غرب أوروبا والولايات المتحدة عسى أن تصبح خيارات الناخبين أقلّ جنوناً.
 
 
يعيب دانييل بيل على المفكّرين والباحثين اهتمامهم الشديد وتركيزهم على تقديم أبحاث حول الديمقراطية الانتخابية (الليبرالية) وتقصيرهم في مناقشة «نظام الجدارة السياسية» أو حتّى الاستفادة منه أو رفعه (أخذ مزاياه). فمن كونفوشيوس إلى أفلاطون وتشو شي Zhu XI إلى جون ستيوارت ميل وسون يات سين وولتر ليبمان، جميعهم سعوا لتحديد وسائل الاختيار الأفضل للقادة القادرين على الحكم. لكن، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، تمّ تقديس الديمقراطية الليبرالية واعتبارها الخير اليقين، وباتت خطّاً أحمر لا يمكن نقاشه ولا المساس به.
 
 
ويعيب بيل أيضاً على الديمقراطية الليبرالية أنها لا تسمح للشعب باختيار قادته بكلّ حرّية، كما يُشاع عنها، بل تسمح للشعب بالتفضيل بيْن قادة تمّ ترشيحهم سلفاً من دون حتّى الاستئناس برأي الشعب. هذا ما يسمّيه الكاتب «طغيان الأشخاص المتنافسين». أي إنّ الديموقراطية الليبرالية ها هنا ليست آلية ترشيح واختيار حقيقية، بل هي عملية تفضيل ممّا هو موجود مسبقاً فقط. حتى إنّ عملية التفضيل بالنسبة إلى الشخص الواحد، ذي الصوت الواحد، لا تقوم على أساس عقلاني يأخذ في الاعتبار مصلحة المجتمع ككلّ ومصلحة الأجيال القادمة، بل تتمّ على أساس مصلحة حزبه ومصلحته الخاصة الضيّقة والأنانية والآنية.
 
 
إنّ قولنا السابق لا يعني أنّ نظام «الجدارة السياسية» بلا عيوب. وأوّل ما يعيبه غياب المشاركة السياسية الواسعة من قِبل الشعب. وإذ ننقد الديموقراطية الليبرالية، فهذا لا يعني دفاعنا عن الديكتاتوريات وغياب الحرّيات السياسية في بلداننا. ولكن يكفي أن يتخيّل المرء أنه مواطن أميركي حتّى يصاب بالحيرة. فخياراته التي ستحدّد مستقبل بلاده محصورة بيْن عجوز خرف وآخر مُدان... وهذه هي الديمقراطية الليبرالية!
 
 
المصدر: الأخبار