العلمانية
معاكسة وجهة العولمة: النَيْل من تركُّز الأرباح شمالاً

ورد كاسوحة

الثلاثاء 9 تموز 2024

في مسار العولمة والتجارة الحرّة، يُسمَح للرساميل بالذهاب إلى حيث القيود أقلّ على حرّية التجارة والاستثمار. ولكن الأرباح التي يتمّ تحصيلها هناك، لا تبقى في مكانها، أي في الدول التي يجري الاستثمار فيها، بل تعود صعوداً من حيث أتت، ليس لمعاودة التركُّز فحسب، بل للمضاعَفة أيضاً، بعدما تخفّفت الرساميل من القيود على استثماراتها إلى الحدّ الأقصى. هذا الجزء هو الأسوأ في العولمة، وفي حرّية التجارة عموماً، حيث حرّية الحركة مُتاحة أكثر للرساميل، حتى في الذهاب جنوباً. ثمّة، في المقلب الآخر من هذا المشهد، ديناميّة، أتى التفلّت الحاصل في أجور الطبقة العاملة العالمثالثية، على شكل تدفّقات نقدية، ليؤكّدها. ويمكن اعتبارُها، حتى الآن، بمنزلة استثناء، لأنّ سلسلة التدفقّات الأخرى، المصاحِبة للعولمة، من السلع إلى الخدمات إلى الرساميل، وصولاً إلى العمالة نفسِها، إنما تصبّ في مصلحة تركُّز الأرباح، غرباً وشمالاً، ولا يوجد ما يدلّ على أن ثمّة تفلّتاً آخر، من تركّزها، في الأمد المنظور.
 
 
فكما احتاجت الرأسمالية عقوداً حتى تصِلَ إلى المرحلة التي تُجيَّر فيها كلُّ موارد الكوكب، وليس الجنوب العالمي فحسب، في خدمة تراكُمِها، كذلك الأمر بالنسبة إلى الخروقات العالمثالثية التي تحصل بين الحين والآخر في مجرى مراكمَتها الأرباح وتركيزِها. فهذه، في النهاية، عمليات تاريخية، سواء أكانت لمصلحة الرأسمالية أم في مواجهتها. وتبلوُرُها كمسار تاريخي، يتطلّب، بدوره، سنواتٍ، إن لم يكن عقوداً، من تراكم الوقائع والأحداث والنضالات، وحتّى المصادفات، حتّى نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من خروقات جزئية ونسبيّة. وفي حالتنا الخاصّة بالتحويلات أو تدفّقات الأجور، يبدو الأمر مزيجاً من كلّ ذلك؛ فالهجرة كانت حاجةً للرأسمالية في البداية، قَبْل أن تحصل فيها تحوّلات تقود إلى تقوية مواقع العمالة المهاجِرة إذ يصبح الأجر، أو الجزء الفائض منه، مُتاحاً، حتّى لدول المنشأ.
 
 
يمكن القول إنه ليس ثمّة مثيلٌ لهذه الحالة، لا في دول الشمال ولا حتّى في الجنوب، حيث ليس هنالك مهاجرون من الشمال في الجنوب. وفي المقابل، مَن يعمل من الجنوب في دولٍ نامية تتمتّع باقتصاد قوي لا يحظى بمثل هذه القدرة على الهتك الجزئي لتركُّز الثروة غرباً. على اعتبار أنّ العمل في الجنوب، حتى لو كان مقترِناً بنموذج تحويلات، هو بمنزلة انتقال للطبقة العاملة من بلد منشأ إلى «بلد منشأ آخر». الصراع الجغرا-طبقي الذي تنطوي عليه معادلة رساميل-أجور، ليس موجوداً هنا، وهو ما يجعل التناقض بين العمل ورأس المال محصوراً بالتحوّلات التي تطرأ على الهجرة إلى الغرب.
 
 
يمكن مقاربة الأمر من منظور جيوسياسي أيضاً، إذ ينشأ غالباً لدى الطبقة العاملة المهاجِرة وعيٌ مركّب، يضع مسألة الانتقال إلى الغرب للعمل، في سياق النهب الحاصل غربياً لثروة الجنوب، عبْر الحروب وافتعال النزاعات الأهلية، لتسهيل انهيار التنمية العالمثالثية في تلك الدول. هذا لا يجعل تدفُّق الأجور، أو الأجزاء منها، عكسياً، «جزءاً من المواجهة» فحسب، بل يضع مسألة الهجرة إلى الغرب، برمّتها، في سياق استئناف الصراع، ولكن عبر عمليّة الإنتاج هذه المرّة. فبعد حصول الهجرة، على أثر انهيار اقتصادات تلك الدول، يبدأ المهاجرون، الذين تحوّلوا إلى طبقة عاملة، بتحصين مواقعهم، ولا سيّما في عملية الإنتاج، بمراحلها المختلفة، حيث القدرة أكبر، مع كلّ الاستغلال الحاصل، على الوصول إلى الثروة المُنتَجة هناك، لعكسِها، أو جعلها تتفلّت جزئياً باتجاه دول المنشأ النامية.
 
 
يتطوّر الأمر، بهذا المعنى، حين يستقرّ النموذج وتتعزّز مواقع قوى العمل المهاجِرة بالحصول على الإقامة ثمّ الجنسية، ليدعم ذلك مسار تحصين الأجور أكثرَ فأكثر، ومعها نظام الحوافز والإجازات والترقّي الوظيفي. «الرفاهية» التي تزداد طرداً مع تحسُّن واقع العمل، تنعكس فوراً على نمط الإنفاق الذي يبدأ تدريجياً بالتخفّف من متطلِّبات استهلاك الأجر، داخلياً، على نحو كامل. أي عبر الإنفاق من دون كوابح على السلع والخدمات والإيجارات التي تغذّي الناتج المحلي الإجمالي حيث يُقيم المهاجرون ويعملون. وهو ما يسمح، لدى كبح الاستهلاك الرأسمالي للأجور هناك، باقتطاعات جزئيّة منها، تتحوّل، مع تراكُمِها شهراً بعد آخر، إلى فوائِض فعليّة. وهذه الأخيرة يمكن اعتبارُها، مع انتقالِها على شكل تحويلات نقدية، الترجمة العمليّة لهذا الحراك الجغرا-طبقي الذي تقودُه الأجور، أو الأجزاء منه، في مواجهة نظيرِه الخاص بالرساميل وتراكُمِها وتركُّزِها على مستوى العالم.
 
 
المصدر: الأخبار