مقالاته
المستحيل عن جد.. دولة واحدة بقوميتين (2)

نصري الصايغ

الأربعاء 7 شباط 2024

“الحلم” الذي تجرأ عليه المفكر اللبناني الفضل شلق، إما مستحيل أو يلزمه وقت طويل، يقاس بعشرات السنوات. هل كان ذلك متداولاً من قبل؟ إن نعم، فلِمَ لم يصل إلى مرحلة الإنجاز؟ وإن كان ذلك ممكناً، فما هي الوسائل والقواعد والضمانات؟ الأجدى، هو لا. لأن الزواج مستحيل.
 
عاش الإسرائيلي هذا الحلم ـ الكابوس. تجرّأ المؤرخ “الإسرائيلي” ميرون بنفستي باكراً على مشكلة لا حلّ لها.. يقول بنفستي مؤرخ المأساة: “أنا ابن هذه الأرض، لكن العرب كانوا دوماً في هذه الأرض. وهذه أرض العرب. هم مشهدها. هم السكان الأصليون، ولا أرى نفسي أعيش من دونهم. وفي نظري، فإن أرض إسرائيل من دون العرب، أرض عاقر”.
 
إذاً، لا مستقبل لهذا الوهم المثالي والمستحيل. الفلسطيني يملك شهادة ولادة تعود إلى مئات القرون. “لا مستقبل لأحد منا معاً”. أنت تقول لا أشعر بالغربة هنا. نحن ماذا نقول. إننا هنا منذ ما قبل التاريخ وباقون إلى يوم الأبدية البعيد.
 
يقول بنفستي، المؤرخ الحالم دائماً، “إن الحلم بإسرائيل كان صغيراً دائماً. اليوم بات صغيراً وضيّقاً. اننا نختنق. نريد قليلاً من الهواء. هل سيكون لمستقبلنا تاريخ، أم تكون أيامنا زمناً لا يطاق”.. أي باختصار، هناك “شعبان” في أرض واحدة، واحد مزمن وآخر راهن.
 
هذا الكلام أعلاه، يصف بلغة هادئة. استحالة إكمال التجربة المستحيلة: “شعبان في دولة واحدة”.
 
يتجرأ المؤرخ بنفستي ويقول: “تجرأ على الأسئلة الصعبة، ولو كنت تخون الصهيونية”. هل يمكن إنشاء دولة صهيونية لا عرب فيها؟
 
هذه لا سامية مجرمة. هذه جريمة إنسانية. بدل أن تُمحى الحدود، نمحو الشعب الفلسطيني. أليست هذه لا سامية، فنكون نحن، ضحايا في زمن ومجرمين في هذا الزمن. هل أخون الصهيونية أم أخون الإنسانية؟
 
إنها حالة نزاع، في الشخصية “الإسرائيلية” ذاتها التي تريد “إسرائيل” بصيغة ثنائية. بنفستي نفسه لا يريد أن يكون “الإسرائيلي” خريج ثكنة فقط. “حكامنا يتخرجون من البنادق، ويكتبون بالذخيرة حياتنا”.
 
مضى زمن، تغيّر فيه بنفستي: “دولتان لشعبين. هذه ليست قصة حركتين قوميتين تقفان في مواجهة، إنها قصة أصليين (فلسطينيون) ومستوطنين (يهود). الفلسطيني أصيل يشعر بأن أناساً تسلّلوا من وراء البحار إلى محيطهم الطبيعي وسلبوه إياه”. وعليه، فالفلسطيني لن يتنازل عن حقه في أرضه وهذا يعني استحالة نسيان حق العودة الذي يقتل شعبنا ومشروعنا.
 
لن يتنازل الفلسطيني عن حق العودة. بوكالة “أونروا” أو من دونها. خاض وسيخوض وسيظل كذلك، مهما طال الزمن، ومهما كانت جسامة التضحيات. “الإسرائيلي” قوي بسلاحه وحلفائه وأرصدته، الفلسطيني أقوى، لأن فلسطينه فعل وجود طبيعي، شبيه بالأمومة. إن زواجاً بالإكراه، جريمة، فالقاتل والقتيل لا ينامان في فراش واحد.
 
كان هناك حل آخر، جرى التداول فيه لسنوات. أثمر عن عقم. الحل: “هيكل فدرالي واحد يشمل كل أرض إسرائيل الغربية، وتحت هذا الهيكل الواحد تقام كانتونات عرقية: للمستوطنين كانتونهم وللفلسطينيين كانتونهم”. عقّب كثيرون على هذا الاحتمال المستحيل: “ضدان لا يصنعان وطناً”.
 
هل يمكن تأمين المساواة بين شعبين؟ واقعاً، سيكون هناك مواطن درجة أولى ومواطن درجة ثانية. كثيرون علّقوا: “الحل هذا غير ممكن، بل مستحيل. إسرائيل من دون الصهيونية تزول”. وعليه، من غير المحتمل، أن تكون في دولة واحدة سيادتان.
 
وعليه، من المستحيل أن يتم زواج بالدم. الشعوب لا تلغى بقرار ولا تزوج بقرار.. قد تلغى بحرب إبادة، وهو ما تقوم به إسرائيل وما أقدمت عليه مراراً. الخطأ في نظر مؤرخي “إسرائيل” هو في عدم طرد الفلسطينيين كلهم في العام 1948، ومن ثم في العام 1967.
 
تراجع الحل الخلاصي المشترك نهائياً. تبين أن “إسرائيل” تتبنى عقيدة واضحة: الأرض لنا، فليرحل الفلسطيني أو فليطرد. الصهيونية بحاجة إلى تصعيد صهيونيتها.
 
هل يمكن الاستنتاج بأن الحل منعدم في فلسطين. هناك إحساس طبيعي جداً، في أن العدائية المتمادية هي في أصل الحروب، مع فارق طبيعي، أنه كلما زاد تعصب الإسرائيلي، كلما أبدى الفلسطيني البلا دولة، عشقه للنضال من أجل استعادة البيت الفلسطيني.
 
أنهى بنفستي ترحاله بما يلي: “أكاد أنطفئ. أشعر أن غرناطتنا لن تعيش كثيراً، أخيراً سيتعب السلاح، وربما تنتصر الأرحام ويغور العراة في معركة البقاء.. إننا نعيش كفاف دهرنا”.
 
إذاً، لن يكون سلام ولن يكون هناك حل. شعبان في دولة واحدة مستحيل وخرافة سياسية. كيانان، واحد إسرائيلي وآخر فلسطيني مستحيلان أيضاً. سيعيش الطرفان على حرابهما. التناقض ليس سياسياً. هو حياتي محض. الواحد ينفي الآخر. يقول بني موريس: المشروع الصهيوني أبوكاليبتي. انه يقيم في محيط معاد. ان وجود (إسرائيل) غير منطقي. حل الدولتين مستحيل. حل دولة واحدة بشعبين مستحيل جداً. دولة واحدة وطرد الفلسطينيين نهائياً، حل بمستوى جريمة إبادة. قيل لبني غوريون، “إن القوة وحدها هي التي ستقنعهم بوجودنا” لم يكن على حق. لم يهزم العرب إسرائيل، ولكنهم ما زالوا بيننا وعلى تحومنا ويعاملوننا كأعداء. وما بيننا مجازر ومشاريع إبادة. فلسطين أخذناها منهم بالقوة. استمرينا في ذلك.. نحن مشغولون دائماً بمستقبل يتم فيه بلوغ النقاء الإسرائيلي، على أرض تامة، وليذهب الفلسطيني إلى التيه.. إلى الصحاري السياسية. قد يتطلب هذا ارتكاب مجازر. فليكن. وهذا ما حدث. حروب “إسرائيل” تختلف عن كل الحروب. انها تحارب عزلاً.. إنما، وحتى الآن، لم تنتصر. وغزة دليلاً وجنوب لبنان درس مثالي.
 
بني موريس متشائم. الحلول مخاض فقط. لا ولادة. تاريخ إسرائيل في نصف قرن، هو تاريخ انتصارات. “قوتنا لا يستهان بها. قذفنا بأيام ثلاثة جيوش عربية خارج الحدود في حرب الأيام الستة (1967).. دمشق ركعت على قدميها وخسرت الجولان. الأردن انقسم ظهره وبات بلا رئة. مصر فقدت نبيها الجديد جمال عبد الناصر. أقمنا زمنا في قناة السويس. حفرنا خط بارليف الشهير”. ويسره أن يستفيض في حروب إسرائيل ضد لبنان. دمرنا مطار بيروت وطائراته ولم تطلق رصاصة واحدة علينا. استدعينا أميركا في الحرب حتى استعدنا سيناء. دمّرنا الصواريخ. أبدنا الطائرات المعادية. قاتلنا في الأردن. خضنا معركة إلى جانب الأردن ضد “فتح” وأبدناهم. نحن كنا أسياد البر والبحر والجو. الأسلحة العربية للزينة ولقمع شعوبها.. ومع ذلك فإسرائيل ليست آمنة.
 
لا حل في الماضي ولا في الحاضر ويستحيل في المستقبل.
 
أما عن الجرائم التي ارتكبت، فتاريخ “إسرائيل” تراكم جرائم. من دون قوة “لا ترانسفير” ولا انتصارات ولا دولة يهودية. الترانسفير كان ضرورياً. شعبان في أرض واحدة، مشروع دموي متناسل. إما نحن وإما هم. والنتيجة هي، نحن، لا هم. عرب “إسرائيل” قنبلة موقوتة. الضفة مغاور مقاتلين. غزة خطر وجودي.
 
ماذا بعد؟
 
هزم الفلسطيني مراراً. ثم استعاد قبضته وبندقيته. تم اجتثاث الشعب ولكنه زود الأرض بالأسلحة. الإسرائيلي يرتكب جريمة، بل جرائم. الفلسطيني يحارب ليستعيد الطريق إلى بيته وأرضه. ولكن مشروع العودة يفترض تدمير مجتمع كامل. الطرد ليس جريمة حرب؟ ومع ذلك، فإن الشعب في “إسرائيل”، خائف على فردوسه “الإسرائيلي”: “إسرائيل” كلها ثكنة عسكرية. شبابها عسكر. أسلحتها بلغت حد النووي. “شكراً فرنسا”.
 
وعليه؛ لا حلول بعد. قد يحتاج الحل إلى قرن جديد. كل الخرائط والالتزامات والمشاريع والنوايا الحسنة، ورغبات السلام، يجب أن توضع جانباً. المنطقة موبوءة بالعنف. العالم “المتقدم”، يزداد توحشاً. “إسرائيل” تزداد إجراماً.. وفلسطين تزداد تعلقاً وإيماناً بالمستحيل الوطني. لن تقبل أسماء بديلاً عن حريتها.
 
ماذا بعد؟
 
قد يحتاج اقتراح المفكر الفضل شلق، إلى زمن آخر. إلى ثقافة جديدة، إلى مؤسسات دولية ذات جذور إنسانية، إلى ثقافة العدل والتعادل، إلى بناء إنسان جديد.. وهذا أصعب ما يمكن حصوله.
 
تعلمت البشرية في خلال تاريخها، انها كلما تقدمت وعرفت ازدادت توحشاً. الإنسانية موجودة في الكتب. اسألوا رأس المال: هل أنت إنساني. عبث. هذا العالم، خذوه كما هو.