لبنان في العالم
مع سريان وقف إطلاق النار... من يحسم "سجال" الغالب والمغلوب؟!

النشرة

الخميس 28 تشرين الثاني 2024

مع سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ولو أحيط بحذر شديد، بانتظار اكتمال فصوله على امتداد الشهرين المقبلين، تنفّس اللبنانيون الصعداء، بعد نحو سنة وشهرين من الاشتباكات والمناوشات، التي ارتقت لمستوى "حرب همجيّة" بدأت في شهر أيلول الماضي، وكانت كلفتها باهظة، وقد تجلّت في الدمار والخراب على امتداد الخريطة اللبنانية، فضلاً عن الفاتورة البشرية "الثقيلة" التي تخطّت فواتير معظم الحروب السابقة.
 
ولعلّ اليوم الأخير من هذه الحرب يكفي بحدّ ذاته للتعبير عن مستوى "الجنون" الذي شهدته هذه الحرب، بعدما أطلقت إسرائيل "يدها" في هذا اليوم، على طريقة "الانتقام المسبق" ربما، سواء من خلال الأحزمة النارية التي ضربت بها الضاحية الجنوبية لبيروت، أو من خلال الضربات المكثّفة للعاصمة اللبنانية، بمختلف مناطقها وأحيائها، بوتيرة لم تبدُ مسبوقة بالمطلق في كلّ الحروب، ما تسبّب بذعر واسع بين المقيمين فيها والنازحين إليها.
 
لكن، مع لحظة سريان اتفاق وقف إطلاق النار عند الرابعة من فجر الأربعاء، بدا أنّ كلّ هذا "الجنون" أصبح من الماضي، ليطغى مشهد عودة النازحين السريعة والتلقائية إلى قراهم ومدنهم في مختلف المناطق، من أقصى الجنوب إلى البقاع، مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت، وهو مشهد بدا "مفاجئًا"، بل ربما "مستفزًا" للجانب الإسرائيلي، الذي دعا الجنوبيين إلى "التريث"، مهدّدًا باعتقال العائدين إلى القرى الجنوبية الأمامية.
 
لكن، بمعزل عن كلّ هذه المشاهد، فإنّ سريان اتفاق وقف إطلاق النار، أعاد إحياء "السجال" المرافق لكلّ الحروب عن "الغالب والمغلوب" فيها، فهل انتهت هذه الحرب التي يصفها الكثيرون بـ"العبثية" بانتصار إسرائيلي، في ضوء الخسائر غير المسبوقة التي تكبّدها "حزب الله"، وقد خسر أكبر قادته وأهمّهم، أم أنّ الحزب الذي استعاد عافيته إلى حدّ بعيد، هو الذي ألحق "الهزيمة" بالإسرائيليين، الذين بدوا عاجزين عن تحقيق أهدافهم المُعلَنة من الحرب؟!.
 
في المبدأ، لا يبدو خافيًا على أحد بأنّ وجهات النظر تتفاوت عند "تقييم" نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان، تمامًا كما تفاوتت في قراءة "الأسباب الموجبة" لهذه الحرب من الأساس، إذ إنّ هناك من يعتقد أنّ الجانب الإسرائيلي سجّل الكثير من النقاط على "حزب الله"، وأفقده "هيبة الردع" التي عمل عليها منذ حرب تموز 2006، فيما يرى آخرون أنّ الأداء الإسرائيلي في اليوم الأخير من الحرب كافٍ للدلالة على الفشل في تحقيق الأهداف المرجوّة من الحرب.
 
بهذا المعنى، ثمّة من يقرأ في "الجنون" الإسرائيلي، إن صحّ التعبير، في اليوم الأخير من الحرب، محاولة لحفظ ماء الوجه إلى حدّ بعيد، وكأنّ إسرائيل أرادت القول إنّها أنهت الحرب وهي في "ذروة القوة"، عبر اعتمادها "تكتيك" تكثيف النار، إن صحّ التعبير، ولو أنّ الكثافة لم تنطوِ على "دقّة" في الهجمات، بدا واضحًا أنّ إسرائيل افتقدتها في الآونة الأخيرة، بعدما عجزت في كلّ ضرباتها، عن إصابة أهداف "دقيقة" كما فعلت في المرحلة الأولى من الحرب.
 
وهناك من يذهب أبعد من ذلك، للقول إنّ إسرائيل أرادت بأدائها "المتهوّر" في اليوم الأخير من الحرب، "حرف الأنظار" عن حقيقة أنّ "حزب الله" احتفظ بقدرته على تسديد الضربات الصاروخية إلى قلب تل أبيب حتى الدقيقة الأخيرة وقد سجّل في الأيام الأخيرة أرقامًا قياسيّة في وتيرة العمليات العسكرية مقارنة مع ما سُجّل طيلة الفترات السابقة، وذلك خلافًا للدعاية الإسرائيلية التي حاولت الترويج لـ"انهيار" قدرات الحزب الصاروخية.
 
ولعلّ الكلمة التي ألقاها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على هامش مصادقة "كابينت الحرب" على اتفاق وقف إطلاق النار، تعزّز وجهة النظر هذه، ولا سيما أنّ الرجل تعمّد في هذه الكلمة الحديث عن البند "المسحوب" من الاتفاق، ولو اعتبره البعض بندًا "سريًا" في اتفاق أميركي-إسرائيلي جانبي، في إشارة إلى "حرية الحركة" التي قال إنّ إسرائيل ستحتفظ بها للهجوم في حال أي "خرق"، وهو ما وضعه البعض في خانة "تجميل" الاتفاق أمام جمهوره.
 
قد يكون من الصعب الحديث عن "انتصار إسرائيلي" في هذه الحرب، طالما أنّ الأهداف المُعلَنة لم تتحقّق، فلا المستوطنون استطاعوا العودة إلى بيوتهم بأمان، وبالقوة العسكرية، ولا "حزب الله" انتهى ولو بالمعنى العسكري الذي أرادته إسرائيل وأعلنته مرارًا وتكرارًا، ولكن هل يصحّ الحديث في المقابل عن "انتصار" للحزب، الذي خسر ما خسره على امتداد هذه الحرب، فضلاً عن تراجعه إلى شمال الليطاني، والذي كان يعتبره محسوبون عليه من سابع المستحيلات؟!.
 
هنا أيضًا، تتفاوت وجهات النظر، فالمحسوبون على الحزب والعارفون بأدبيّاته يؤكدون أنّ "الانتصار تحقّق"، رغم إقرارهم بأنّ هذه الحرب كانت صعبة وقاسية ومؤلمة، وقد أدّت إلى خسائر لا تعوّض، قد يكون أهمّها خسارة الأمين العام السابق السيد حسن نصر الله، إلا أنهم يوضحون أنّ "الأهداف" هي التي تحدّد موازين الربح والخسارة، وطالما أنّ إسرائيل لم تحقّق ما أرادته من الحرب، تكون بالتالي هي التي خضعت بمجرد قبولها بالاتفاق.
 
ويقلّل أصحاب هذا الرأي من شأن كلام نتنياهو، وتلميحاته حول "حرية الحركة"، وما يُحكى عن ضمانات تلقاها بهذا الخصوص من الولايات المتحدة، معتبرين أنّ القاصي والداني يدرك أنّ هذا الكلام جاء "للاستهلاك الداخلي" في المقام الأول، خصوصًا أنّ الرجل يتعرّض لضغوط في الداخل الإسرائيلي، وقد اصطدم بمعارضة واسعة للاتفاق، حتى إنّ بين المعارضين وزراء في حكومته، وبينهم من وصف الاتفاق بـ"الاستسلامي"، بشكل أو بآخر.
 
لكن في مقابل هذا الرأي، ثمّة من يرى أنّ "حزب الله" لا يمكن أن يتحدّث عن انتصار، وقد خسر الكثير في هذه الحرب، بما لا يُقارَن بما خسره مثلاً في حرب تموز، بل إنّ الخسائر التي تكبّدها استراتيجية وليست تكتيكية فحسب، علمًا أنّ المشكلة الأكبر التي انطوت عليها هذه الحرب، أنّها كشفت "أخطاء في التقدير" ارتكبها الحزب، وهو الذي بقي حتى اغتيال أمينه العام، يراهن على أنّ إسرائيل "لن تجرؤ" على الدخول في حرب، فكان ما كان.
 
أكثر من ذلك، ثمّة من يلفت إلى أنّ الكثير من المعادلات التي أطلقها الحزب لم تتحقق، من بينها مجرّد قبوله بمبدأ "فصل الجبهات"، في حين أنّ السيد نصر الله بقي حتى ما قبل اغتياله يؤكد أنّ "السبيل الوحيد" لعودة مستوطني الشمال إلى بيوتهم هو وقف الحرب على غزة، بل إنّه كان يعلن أنّ "لا نقاش" في أيّ أفكار قبل انتهاء هذه الحرب، من دون أن تبدو حجّة "اختلاف الظروف" بعد تغيّر عنوان الحرب من "الإسناد إلى التصدّي للعدوان" مقنعة لكثيرين.
 
في المحصّلة، قد تكون النتيجة الحقيقية للحرب، وفق كثيرين، أنّ الحديث عن "غالب ومغلوب" فيها قد لا يكون واقعيًا، بل إنّ مجريات الأمور توحي أنّ الكلّ كان "مغلوبًا" فيها، ولو سعى لتجميل الأمر عبر الحديث عن "هزيمة" تكبّدها الطرف الآخر. لكن يبقى الأهم من سجال "الغالب والمغلوب"، الذي قد يأخذ مداه حتى في الداخل، هو ما سيعقبه في مرحلة "ما بعد الحرب"، وهي مرحلة يراها كثيرون مفصليّة، بل مصيريّة، على الكثير من المستويات...