فكر حر
لينا الغطمي معماريّة لبنانيّة لهندسات عالميّة

ريتا عازار

الإثنين 7 نيسان 2025

 
اللبنانية الفرنسية لينا الغطمي، شخصية بارزة عالمياً في الهندسة المعمارية المعاصرة. تمزج ببراعة بين الذاكرة التاريخية والاستدامة والابتكار. عملُها، الذي يرتكز على فلسفة تصفها بـ "علم الآثار المستقبلي"، أكسبها شهرة عالمية. من موطنها لبنان، وتحديداً من مدينة بيروت، إلى مشاريعها البارزة في أوروبا وقارات أخرى، تبرز الغطمي كمهندسة معمارية تتجاوز مجرّد بناء المباني إلى استكشاف علاقة الإنسان بالعالم والمواد والمساحات الحياتية.
 
وُلدت لينا الغطمي، ابنة بلدة عانوت - إقليم الخرّوب، في العام 1980 في بيروت، ونشأت في ظلّ الحرب اللبنانية وقد أثّرت هذه التجربة بعمق على نهجها المعماري. فالدمار وإعادة الإعمار جعلاها تدرك أهمية الذاكرة في التصميم المعماري، حيث تسعى إلى خلق هياكل لا تمحو الماضي، بل تعيد تفسيره بطرق حديثة ومستدامة.
 
 
أظهرت منذ طفولتها اهتماماً خاصاً بالرّسم والبناء، حيث كانت ترى في التصميم وسيلة لتَصوُّر مستقبل يتجاوز الدمار. هذا الشغف قادها إلى دراسة الهندسة المعمارية في "الجامعة الأميركية في بيروت"، حيث تخرّجت بامتياز في العام 2003. وسرعان ما دفعتها طموحاتها إلى مغادرة لبنان لمواصلة تعليمها واكتساب الخبرة من رواد الهندسة المعمارية العالمية.
 
 
مسيرة متميّزة
 
بعد بيروت، انتقلت الغطمي إلى لندن ثم باريس، حيث صقلت مهاراتها بالعمل مع معماريين بارزين مثل جان نوفيل ونورمان فوستر. خلال تلك المرحلة، تأكّد التزامها بتصميم معماري يحترم التاريخ والمكان.
 
في العام 2016، أسست مكتبها الخاص "Lina Ghotmeh Architecture"  في باريس، وبدأت تنفيذ مشاريع تعكس رؤيتها الفريدة. فلسفتها واضحة: الهندسة المعمارية ليست مجرّد بناء، بل هي بحث أثري عن الهوية والمكان.
 
 
علم الآثار المستقبلي
 
تتميّز الغطمي بنهج معماري تصفه بـ "علم الآثار المستقبلي"، حيث تسعى إلى فهم تاريخ المواقع وإعادة إحياء روحها في تصاميم حديثة. لا ترى في المباني مجرّد هياكل، بل كائنات حيّة تتفاعل مع السياق الاجتماعي والطبيعي.
 
أحد أبرز المشاريع التي تجسّد هذه الفلسفة هو "حديقة الحجارة" (Stone Garden)، وهو برج سكنيّ في بيروت اكتمل في العام 2020. يتميّز بتصميمه الخرساني الخام مع فتحات غير منتظمة مليئة بالنباتات، ما يرمز إلى قدرة المدينة على الصمود وإعادة البناء. نال هذا المشروع جوائز كثيرة وكان نموذجاً لعمارة تحترم الذاكرة والبيئة في آنٍ واحد.
 
 
مشاريع بارزة
 
على مدار مسيرتها، قدمت لينا الغطمي مشاريع معمارية تركت بصمة قوية، منها:
 
 
- "المتحف الوطني الإستوني" - 2016
 
صُمّم هذا المتحف في مدينة تارتو، في إستونيا، بالتعاون مع المعماريين دان دوريل وتسويشي تاني. يتكامل المبنى مع المناظر الطبيعية المحيطة، حيث يبرز كامتداد طبيعي للأرض، مستوحى من مدرج طائرات عسكري مهجور يعود للعهد السوفياتي.
 
- "جناح سربنتين"، لندن - 2023
 
في العام 2023، اختيرت الغطمي لتصميم "جناح سربنتين" السنوي في "حدائق كنزينغتون" في لندن. أطلقت عليه اسم "إلى الطاولة" (A Table)، وهو عبارة عن هيكل دائري خشبي مستوحى من مجالس الضيافة العربية التقليدية، حيث يجتمع الناس حول الطاولة لمشاركة الطعام والنقاشات. يُجسّد هذا المشروع فلسفتها حول العمارة كمساحة للتفاعل الاجتماعي.
 
 
- مصنع "Hermès"، نورماندي - 2023
 
صمّمت الغطمي معملاً لصناعة الجلود الفاخرة تابعاً لشركة "Hermès". هو أول مصنع صناعي سلبيّ الكربون في فرنسا. بُني بالكامل من الخشب، ما يعكس التزامها بتقديم عمارة صديقة للبيئة.
 
 
- "المتحف البريطاني" - 2025
 
في شباط 2025، فازت لينا الغطمي، بقيادة مشروع إعادة تصميم المعارض الغربية في "المتحف البريطاني"، ضمن خطة تحديث كبرى للمتحف. جاء اختيارها بعد منافسة دولية شملت أكثر من 60 شركة هندسية، حيث تأهلت خمس فرق نهائية، بينها "OMA" و "David Chipperfield Architects".
 
لجنة التحكيم برئاسة جورج أوزبورن، أشادت برؤية الغطمي التي تمزج بين الحفاظ على التراث والتحديث المعماري، ما جعلها تفوز بقيادة المشروع الذي يغطي 15,650 متراً مربّعاً، ليكون أحد أكبر التطورات الثقافية عالمياً.
 
داعمة للهندسة المستدامة
 
إلى جانب أعمالها، تُعدّ لينا الغطمي من أبرز المدافعين عن البناء المستدام. ترفض الإفراط في استخدام الخرسانة بسبب تأثيرها البيئي السلبي، وتدعو إلى استخدام الحجر الطبيعي والخشب كبدائل أكثر استدامة. كما تؤكد أهمية إنشاء مبانٍ أكثر مرونة، قادرة على التكيّف مع تغير المناخ والاحتياجات المستقبلية للسكان. تتجلى هذه الرؤية في مشاريعها التي تمزج بين التكنولوجيا الحديثة والتقاليد المعمارية، مما يجعل مبانيها نموذجاً للعمارة الذكية والمستدامة.
 
 
العمارة الإنسانيّة
 
بالنسبة للغطمي، الهندسة المعمارية هي أداة للتغيير الاجتماعي، إذ ترى أنّ العمارة ينبغي أن تكون إنسانية، وأن تخلق مساحات تعزّز التفاعل الاجتماعي والراحة النفسية. ويتجلّى ذلك في تصاميمها التي تمزج بين التقاليد والابتكار، حيث تحرص على أن تكون المباني جزءاً من المشهد الطبيعي والثقافي، لا مجرّد إضافات إسمنتية.
 
 
من بيروت إلى باريس، ومن لندن إلى إستونيا، تُواصل لينا الغطمي ترك بصمتها الفريدة، حيث تثبت أنّ العمارة يمكنها أن تكون جسراً بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة والابتكار، وبين الإنسان والطبيعة.
 
 
بصمة على العمارة المعاصرة
 
لا تكتفي لينا الغطمي ببناء الهياكل، بل تضفي على إبداعاتها تفكيراً عميقاً حول الذاكرة الجماعية والتأثير البيئي. فعمارتها، التي تقع عند تقاطع علم الآثار والمستقبل، تعيد النظر في كيفية تفاعل المباني مع سياقها التاريخي والاجتماعي والبيئي. من خلال مشاريعها، تتحدّى المعايير التقليدية عبر دمج المواد الطبيعية واستخدام تقنيات بناء مستدامة، مع الإضاءة على الحرفيّة المحليّة، فيعكس نهجها رؤية شاملة للهندسة المعمارية كوسيلة لنقل الثقافة والهوية، حيث يصبح كل فضاء سرداً لقصة ذات مغزى.
 
يظهر أيضاً التزامها بالهندسة المعمارية المسؤولة، في تعاونها الأكاديمي ودورها كمحاضِرة في مؤسسات مرموقة. تشارك خبرتها مع الأجيال الجديدة من المعماريين، محفزةً إياهم على تصميم مبانٍ تحترم البيئة وتلبّي احتياجات المجتمعات. بالتوازي مع ذلك، تشارك بفعالية في لجان تحكيم جوائز الهندسة المعماريّة العالميّة، مسهِمةً في تشكيل اتجاهات التصميم الحضري المستدام.
 
في عالم يواجه تحدّيات التغيّر المناخي والتمدّن المتزايد، تُقدّم لينا الغطمي بديلاً يجمع بين الابتكار واحترام التراث الثقافي. فهي تثبت أنّ الهندسة المعمارية يمكن أن تكون وظيفية وجمالية وأخلاقية في الوقت ذاته، عبر إعادة تصوُّر علاقة الناس بالمباني والمدن. يُجسّد عملها رؤيةً يلتقي فيها الماضي بالمستقبل بتناغم، ما يخلق مساحات مليئة بالمعاني والشاعريّة، تلهم وتؤثّر في طريقة تَشكُّل عالم الغد.
 
اعتراف عالمي
 
حصلت المهندسة لينا الغطمي على جوائز مرموقة تقديراً لإنجازاتها، منها:
 
- "جائزة إريك شيلينغ" للهندسة المعمارية عام 2020.
 
- الجائزة الكبرى "AFEX" عام 2021، التي تُمنح للمعماريّين الفرنسيّين العاملين على مستوى عالمي.
 
- "جائزة الهندسة المعمارية والتصميم" ضمن مبادرة "نوابغ العرب" في الإمارات العربية المتحدة، في العام 2023.
 
تؤكد هذه الجوائز تأثير الغطمي الكبير في مجال الهندسة المعمارية، حيث أصبحت رمزاً لجيل جديد من المهندسين المعماريين الذين يسعون إلى التوفيق بين التراث والحداثة.
 
 
المصدر: نداء الوطن