مها بيرقدار شاعرة صادقت الصمت ورسّامة لوّنت الهدوء
شادي معلوف
الإثنين 24 شباط 2025
مساء السبت تشارك الممثّلان الشقيقان ورد ويوسف الخال عبر حسابيهما في "إكس"، الصورة عينها لوالدتهما الشاعرة والتشكيليّة مها بيرقدار (1947-2025) حاملةً في يدها كتاباً، ليعلنا لمتابعيهما غياب "أم الورد"، كما كتبت كريمتها ورد الخال، التي تابعت "راحت وأخدت معها العطر واللّون وتركت الندى اللي كان غفيان ع خدّها... أمي، أميرتي الحبيبة النائمة، إلى اللقاء". أما يوسف فاختصر وجعه برحيل الأم الذي لا يُشفى المرء منه، بعبارة "الحب... رحلت".
بعد فترة مرض وألم، انطفأت مها بيرقدار الخال. وكأنّها كانت استبقت الغياب الأخير، عندما أفردت مطلع الصيف الماضي، على صفحات كتابها "حكايا العراء المرعب" (2024، "دار فواصل للنشر" بالتعاون مع "دار مجلّة شعر")، ذكرياتها ومذكّراتها.
هي من مواليد دمشق. الابنة الثانية في أسرة من 4 أولاد، للضابط في الشرطة السورية المقدّم محمد خير بيرقدار والسيدة نظمية الأمين. عاشت مها طفولة هادئة بين والد مثقّف، يهوى الرسم ويمارسه، ووالدة ربّة منزل موهوبة في الرسم أيضاً. شخصيتها المرهفة والهادئة أكسبتها عاطفة الوالد ودلاله.
موهبة تتفتّح
كانت في الرابعة عشرة من سنيها، حين تفتّحت لديها مواهب الشعر والرسم، فشهدت دفاترها استيلاد الكلمات والخطوط والأشكال الملوّنة. والترحال الذي عاشته وأسرتها بين مختلف مناطق سوريا، بحكم عمل والدها، أغنى مخيّلتها الجمالية لكثرة ما شاهدت وخزّنت فيها مشهديات مختلفة ومتنوّعة من طبيعة وناس.
مها بيرقدار التي تلقّت علومها في سوريا ونالت شهاداتها المدرسيّة بتفوّق، رغبت في دراسة المسرح، لكنّ الوالدين كانا بالمرصاد لهذه الرغبة أولاً، على اعتبار أنها من عائلة عريقة محافظة. لكنّها تمكّنت في العام 1964، من الانتساب إلى "معهد الفنون الجميلة" في دمشق، حيث درست الرسم والنحت، ونالت عام 1967 دبلوماً في الرّسم بدرجة جيّد جداً. ذلك العام حمل لها إلى الشهادة العلميّة، شهادة جماليّة حين انتُخبت "ملكة جمال دمشق".
حاولت متابعة دروس الرسم في ألمانيا، لكنّها وصلتها متأخرةً عن بدء العام الجامعي بمعهد الرسم، فدرست إدارة الأعمال ونالت الإجازة عام 1969. في العام نفسه، وإثر سكتة قلبية، توفّي والدها ما دفعها للعودة إلى بلدها.
ولادة الحزن
موت الأب ولّد في الابنة حزناً عميقاً جعلها تُصادق الصمت. صمت قوّى الأحاسيس في داخلها، ونمّى الحدس فيها، وأكسبها اكتشاف الآخر من نظرة. تقول "أنا ما اخترت الصمت عن ضعف، إنما عن وعي وعن رقيّ، ولا أريد لروحي أن تتلوّث بل أن تبقى تضجّ بالحبّ والجمال والخير".
في دمشق، دخلت ميدان العمل الإعلامي حيث أعدّت وقدّمت في الإذاعة السوريّة برنامج "الليل والشعر والموسيقى". وبعد سنوات، شاركت في بيروت في تحرير مجلة "فيروز" التي كانت تصدر عن "دار الصيّاد" حيث زاملت الأديبة إميلي نصرالله والإعلاميّة سونيا بيروتي وسواهما من رائدات الصحافة النسوية.
لقاء العمر
كانت مها بيرقدار في العشرينات من سنيها حين التقت الشاعر والفيلسوف يوسف الخال (1917-1987)، يوم زارته في بيروت طمعاً في أن يساعدها بنشر مجموعتها الشعرية الأولى، عندما كان مدير "دار النهار للنشر".
تكرّرت اللقاءات وتبادل الرسائل بينهما، حتّى كتب لها يوماً "أعددتُ لكِ بيتاً صغيراً عند البحر لا تتصوّرين كم أنا غريب ووحيد، فتعالي حين ينتصف تموز وإلّا فغيبي إلى الأبد".
كان طبيعيّاً أن يرفض ذووها زواجها من رجل يكبرها بثلاثين عاماً، من غير دينها، وأب لولدين من زواج سابق. أصرّت وكان أن تزوّجا مدنياً في قبرص عام 1970.
حياتهما الزوجيّة لم تكن مستقرة. فمن بيروت الصاخبة، سواء في بيتهما الزوجي أو خارجه حيث الحفلات والسهرات واللقاءات الثقافية والشعريّة، ومن إدارة "غاليري وان" للفن التشكيلي التي يملكها يوسف الخال، إلى حياة أشبه بالقرويّة في بيتهما ببلدة غزير، مرّت مها بمرحلة أهملت خلالها الشعر والرسم.
والحياة مع يوسف الخال، الشاعر والفيلسوف والمثقَّف، شابتها الاختلافات والخلافات الكثيرة. نمط عيش مختلف، شخصية زوج صعبة، فارق عمر واهتمامات... كلّها مسبّبات لتكون حياة الزوجين منفصلة وإن تحت سقف واحد. لكنّهما عاشا معاً 17 عاماً مرّ خلالها على مها الكثير.
بعد وَرْد، ورغم ما شاب حياة الشريكين، حملت ثانيةً. حاولت التخلّص من الجنين، "لم أعد أتحمّل يوسف، فكيف أنجب له مزيداً من الأولاد؟". طلبت من زوجها مالاً للذهاب إلى المستشفى، فجاءها برزمة ليرات رماها في وجهها قائلاً لها إنه يرفض مشاركتها "بمثل هذه الجريمة". ذهبت للتخلص من حملها، لكنها عدلت عن رأيها. وُلد طفلهما وبقي 7 أشهر من دون اسم. لكن مع سفر الأب إلى لندن، أرسل لزوجته من هناك يقول "دعوناه يوسفاً. لكثرة ما أحببته، فأنا تقمّصت فيه بعد هذه الكَبْرة". لتعلّق مها: "أنا بيوسف واحد تعبانة، فكيف بيوسفين؟".
يا قمح الطفولة
الحرب إذاً نقلت الخال وزوجته من الإقامة في بيروت إلى غزير. أقفل "غاليري وان" أبوابه. ترك يوسف عمله في "النهار". انصرف إلى مشروعه الكبير، تعريب "الكتاب المقدّس". مهمّة استدعت منه عملاً مضنياً وسفرات طويلة وعديدة.
لكن في مقابل كلّ ما سبق، دخول مها بيرقدار دائرة حياة يوسف الخال وأوساطه ومعارفه، جعلها تتعرّف إلى كثيرين وتشهد على أحداث كثيرة.
عرفت الشيخ بشير الجميّل حين حضر توقيع كتاب زوجها "الولادة الثانية"، وطلب الأول من الخال، أن ينظّم له جلسة في منزله تجمع مثقّفين وفنانين، فكان ذلك.
تروي الراحلة أنّ زوجها قال لها ذات يوم عن بشير "إنه أجمل وأكبر من أن يكون حقيقة! لأنه جمع في شخصه الإقدام والإيمان والاندفاع وعشق الوطن، وطهارة اليد والنفس".
عملت مها الخال على وضع كتاب عن بشير، ولمّا كانت متوجّهة إلى المطبعة لتسليمه، نجت من موت محقّق لمرورها بالمكان الذي استهدفه بتفجير أخطأه وقتل ابنته الطفلة مايا.
اغتيال رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب بشير الجميّل لاحقاً، جعلها تكتب له "يا قمح الطفولة وجّ الفرح بالبال/ يا جناح البطولة الما بقا ينطال/ يا سيف الرجولة قلب الصخر غمدو/ ما عندو بكي ع غيابك ما عندو/ يا قمح الطفولة يا جناح البطولة يا سيف الرجولة بالبال ما بقا ينطال// ع بيوتنا ودّيت الحلم بكّير/ قطفتو بسرعة من قبل ما يصير/ يا إيدك برق بالسما ساطع/ يا لونك وهج عالجبل طالع/ يا صوت العتب حد الجرح شو زغير/ بالبال ما بقا ينطال //" كلمات غنّاها الفنان ربيع الخولي.
حياة قاسية
في كتاب ذكرياتها، اختصرت مها بيرقدار حياتها الزوجية بوصفها بغير المتكافئة في كل المقاييس، "فلا هو أسعدني، وأنا أيضاً فشلت في إسعاده... كانت سعادتي تكمن في عيني كلّ من ورد ووسّوف (ابنها يوسف)، ولوحاتي، وأوراقي الشعريّة المتناثرة!".
عاشت مها بيرقدار تفاصيل مرض زوجها يوسف الخال بالخبيث. تروي أنّ عروضاً عدّة بلغتها لعلاجه بينها من الرئيسين رفيق الحريري وأمين الجميّل، ومن الدكتور سمير جعجع. تابع الزوج المريض فترة علاج في فرنسا على نفقة الرئيس رفيق الحريري. لاحقاً مع تدهور حاله، حين أبلغته بمن عرضوا المساعدة قال لها: "شكراً للكلّ... الحريري دفع كتير عليّي بفرنسا! والدكتور جعجع الله يعينه... أنا بدّي رئيس بلادي أمين الجميّل، ثم صمت".
عرفت حياتها محطات وتجارب أخرى قاسية. ففي صباها نجت من حادثة تحطّم طائرة في سوريا، وفي بيروت نجت من انفجار رغم الإصابات. لاحقاً عانت من مرض السرطان وشفيت منه. الموت خطف منها أعزاء، ثمّ أخاً وأختاً بفارق 20 يوماً. انفجار مرفأ بيروت عام 2020 وما تلاه من تدهور الأوضاع اللبنانية، حرمها القدرة على كتابة الشعر والرسم، فاعتكفت تكتب مذكّراتها.
مها بيرقدار الخال، التي تقبّلت أسرتها تعازي المحبّين أمس الأحد، تقام مراسم وداعها الساعة 3:30 من بعد ظهر اليوم الإثنين 24 شباط 2025 في كنيسة السيدة الحبشية – غزير، حيث تُقبل التعازي أيضاً من الساعة 11:00 صباحاً حتى 6:00 مساءً
شعر ورسم وتكريم
تمحورت أعمال الشاعرة مها بيرقدار حول الحب والإنسان والوطن والخوف والطفل. لها دواوين وكتب عدّة منها "عشبة الملح"، و "رحيل العناصر"، و "الصمت" و "دواة الروح". لُحّنت من شعرها أغنيات، بينها "الأكواريوم" لماجدة الرومي، و "لبنان يا توب الحرير" و "كل شي تغيّر" ليوسف الخال.
أعمالها التشكيلية عُرضت أولاً في "غاليري وان". ثم تتالت معارضها الكثيرة في لبنان وسوريا ودول الخليج، كما شاركت بمعارض جماعية عدّة هنا وفي الخارج.
كتبت بيرقدار للتلفزيون أعمالاً درامية وسيناريوات مسلسلات منها "الطائر المكسور" و "نقطة حب". ونالت جوائز تكريمية وأوسمة، بينها وسام الاستحقاق اللبناني.
المصدر: نداء الوطن