أحد أبرز روّاد السينما التسجيلية العربية: قيس الزبيدي... رحل «عاشق فلسطين»
شفيق طبارة
الثلاثاء 3 كانون لأول 2024
في ظلّ الحضور المقيّد للكاميرا، وُلد قيس الزبيدي (1939 – 2024). وفي سينما تبحث عن هويتها، وعن مفرداتها، وعن شخصيتها، وعن مميزاتها... نشأ. وفي هذه الفوضى العارمة رحل. خلق سينما غير منفصلة عن الواقع الذي نشأ فيه، فهو عراقي وسوري وفلسطيني وألماني، كاتب ومخرج ومصوّر ومونتير وناقد وباحث سينمائي. قرّبنا الزبيدي من سينما الاستكشاف والتخريب، وكان غنيّاً بالإبداع، جريئاً وحريصاً على تفتيت روتين السينما العربية التقليدية. أسهم في تطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، فطريقته في تفتيت الصورة هي تعبير فني عن الذات بشكل مستقلّ عن الوسيلة، تفتح مثل المونولوج، حيث المكان والشخصيات تسمح ببناء أفلام تشبه المكان. درس الزبيدي المونتاج في بابلسبيرغ في ألمانيا الديموقراطية، ثم درس التصوير عام 1969. ورغم أنّه عراقي، إلا أنّه لم يصور فيلماً واحداً في العراق لأسباب سياسية (فيلمه الوحيد المرتبط بالعراق، وثائقي عن مواطنه الرسام جبر علوان بعنوان «جبر ألوان»)، ولكنه ترك أثراً كبيراً في السينما السورية والفلسطينية، حيث أخرج مجموعة من الأفلام الوثائقية لمصلحة «المؤسسة العامة للسينما» في دمشق، وكذلك أفلاماً وثائقية لمصلحة «منظمة التحرير الفلسطينية».
من خلال عمله في السينما التسجيلية، طور الزبيدي أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، وتميّز برفضه اتباع هياكل السرد الخطية أو التقليدية. طريقته مليئة بالقطع السريعة والمشاهد المتجاوزة والعواطف المتناقضة. اهتمامه بتوثيق الواقع السياسي والاجتماعي، وخصوصاً في سياق القضية الفلسطينية، جعلت أعماله محورية في تطوير السينما الوثائقية في العالم العربي. كان يؤمن بأن السينما البديلة هي وسيلة لإيصال صوت المهمشين وإظهار حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي. الأفلام التي شارك فيها، ظلّت شاهدة على جهد لم يلق النجاح الذي كان يأمله، والذي سعى إلى تغيير الواقع السينمائي العربي.
عرف السينما عند غسان كنفاني، عبر طريقة سرده، وقضية الزمن وتداخله في رواياته. عمل في أكثر من عشرين فيلماً من الأفلام الطويلة القصيرة والروائية والتسجيلية. وكمخرج، صنع ستة أفلام، من بينها اثنان روائيان (طويل وقصير) وأربعة تسجيلية. فيلمه الطويل الروائي الوحيد «اليازلي» (1974)، يعتبر بمثابة بيان للسينما العربية البديلة. يستند الفيلم إلى رواية «على الأكياس» للكاتب السوري الراحل حنا مينة، الذي ترك المدرسة باكراً، مثل بطل الفيلم للعمل كعامل أرصفة في اللاذقية قبل أن يلتزم بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي. عبر تبني وجهة نظر طفل صغير بشأن الصعوبات الاقتصادية والسياسية، يلقي الفيلم نظرةً نقديةً على عالم الكبار حول الحقائق المؤلمة والعمل اليدوي والجنس المكبوت. منع الفيلم من العرض بعد مدة وجيزة بسبب مشاهد العري التي حواها.
فيلمه القصير «الزيارة» (1970)، الذي أُنتج في سوريا، يتسم بالتجريد الحالم. هو عمل حزين يتنقّل بين نصوص على الشاشة لقصائد عن المنفى والموت لمحمود دوريش وسميح قاسم، وبين مشاهد مظلمة تصوّر محاولة رجل فلسطيني عبور الحدود والعودة إلى الوطن. أهم أفلامه كمخرج هو وثائقي «وطن الأسلاك الشائكة» (1980). عندما منع الاحتلال الإسرائيلي مديري منظمات الأفلام التابعة لـ «منظمة التحرير الفلسطينية» من دخول الأراضي المحتلة عام 1980، أرسل الزبيدي طاقم تصوير من ألمانيا الغربية للتحدث إلى المزارعين الفلسطينيين واللاجئين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين. «فلسطين سجل شعب»، هو أبرز ما أخرجه في سياق السينما الفلسطينية. عبر وثائق بصرية نادرة، تناول الفيلم تاريخ القضية الفلسطينية، منذ عام 1917 إلى عام 1948، ثم إنشاء «منظمة التحرير الفلسطينية» في عام 1964. الفيلم محاولة جادة لبناء رواية تاريخية لفلسطين عبر روايات أشخاص عن تجاربهم، إضافة إلى مقابلات مع زعماء فلسطينيين أمثال أكرم زعيتر، والشيخ عبد الحميد السائح، حيث يدلي كلّ منهم بشهادته على الأحداث التي عاصرها. وآخر أفلامه عن فلسطين هو فيلم «فلسطين عنوان مؤقت»، حول تاريخ الاستيطان بين الحاضر والماضي.
عمل قيس الزبيدي كمونتير في سوريا، وشارك في مشاريع سينمائية مع الكثير من المخرجين السوريين. عمله الأول كمخرج في سوريا كان «بعيداً عن الوطن» (1969) وهو فيلم وثائقي قصير تبلغ مدته 11 دقيقة، صوِّر مع الأطفال في «مخيم سبينة» قرب دمشق، حيث يعيش فلسطينيون من لاجئي عام 1948، ونازحي 1967. عمل أيضاً في فيلم «شهادة الأطفال في زمن الحرب» (1972)، وتعاون مع المخرجين السوريين نبيل المالح وعمر أميرالاي ومحمد ملص. من أشهر الأفلام، نذكر «الليل» (1992) لمحمد ملص، الذي يصوّر الأحداث من خلال عيني صبي صغير هو الأنا البديلة لصانع الفيلم. ويروي قصّته وهو بالغ، مع تعليقات من والدته. الفيلم عبارة عن تذكير بالأشياء الماضية حيث يحاول صانع الفيلم فهم طفولته والتصالح مع والده. وفي بيروت، عمل كمونتير في فيلم «بيروت! يا بيروت!» (1975)، لمارون بغدادي، وفيلم «مائة وجه ليوم واحد» (1971) لكريستيان غازي، وفيلم المخرج الفلسطيني غالب شعث «يوم الأرض». عمل أيضاً مع عمر أميرالاي وأنجزا أفلاماً عدة، بداية في فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974)، الذي يعد نقطة تحوّل في تاريخ السينما التسجيلية العربية الواقعية التحريضية، وأفلام أخرى منها «عن الثورة».
شغفه بالسينما دفعه إلى مجالات عدة، فأسّس «الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني» بالتعاون مع «الأرشيف الاتحادي» في برلين. كما ألّف عدداً من الكتب عن السينما، من بينها «فلسطين في السينما» (2006)، وهو عمل مرجعي يوثّق التجارب السينمائية التي تناولت القضية الفلسطينية في مختلف مراحل الصراع. جمع الزبيدي الأفلام الفلسطينية التي تحدثت عن فلسطين خلال تسعين عاماً، تبدأ مع وعد بلفور وتنتهي عام 2005، حيث ضمّ الكتاب 800 فيلم، جرى جمعها للمحافظة على الأرشيف السينمائي الفلسطيني الذي تعرّض لأكثر من نكسة، وخصوصاً أيام اجتياح بيروت عام 1982.
توفي قيس الزبيدي قبل أيام، تاركاً وراءه إرثاً فنياً عميقاً وعميق التأثير في السينما العربية. رغم الظروف السياسية التي قيّدت حركته الفنية، استطاع أن يترك بصمةً واضحةً في مجال السينما الوثائقية والروائية، وأن يسهم بشكل كبير في تعزيز السينما العربية البديلة. في حياته المهنية، كان الزبيدي دائماً ملتزماً بالقضايا السياسية والاجتماعية، واستطاع أن يعكس في أعماله نضال الشعوب العربية، وخصوصاً الشعب الفلسطيني، عبر لغة سينمائية مبتكرة وعميقة.
سيرة في سطور
يعدّ قيس الزبيدي، أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية العربية وباحثاً في نظرية الفنّ السابع وتاريخ فلسطين في السينما، هو الذي نذر مسيرته السينمائية لخدمة القضية الفلسطينية. ولد عام 1939 في بغداد، وعاش طفولة ممزقة بين منزل أبيه وزوجة أبيه، ومنزل والدته التي التقى بها في وقت متأخر. كان لخاله دور كبير في تعريفه بفن المونتاج والإخراج وعالم السينما. حصل على شهادة الدبلوم في المونتاج عام 1964 من «معهد الفيلم العالي» في بابلسبيرغ (ألمانيا)، ثمّ على دبلوم في التصوير عام 1969 من المعهد نفسه.
رأى في الأعمال الوثائقية وسيلةً لنقل الواقع الاجتماعي والسياسي بصدق ودقة، فسلّط اهتمامه عليها، وأخرج مجموعة منها في ألمانيا ودمشق ولبنان وتونس وفلسطين. يُعدّ وثائقي «بعيداً عن الوطن» (1969) نقطة تحوّل في مسيرته السينمائية، إذ تناول معاناة اللاجئين الفلسطينيين ووثّق حياة الأطفال في المخيمات. لم يكن هذا الوثائقي الوحيد الذي سلّط الضوء على المعاناة الفلسطينية، بل قدّم الزبيدي عدداً من الأشرطة الأُخرى عن فلسطين، منها: «وطن الأسلاك الشائكة» (1980)، و«مواجهة» (1983)، و«ملف مجزرة» (1984)، و«فلسطين سجل شعب» (1985).
إلى جانب الأعمال الوثائقية، أنجز بعض الأفلام التجريبية، منها فيلم «الزيارة» (1970) و«اليازرلي» (1972)، الذي مُنع من العرض وتعرّض للتهميش بسبب «محتواه الجنسي». لعب الزبيدي دوراً رئيسياً في تعزيز السينما البديلة، وتمرّدَ على الأساليب التقليدية للسينما العربية، إذ رأى في السينما البديلة وسيلةً لإيصال صوت المهمّشين وإظهار الواقع بعيداً من التجميل أو التزييف. تُعدّ أفلامه شهادة على جهوده لتغيير الواقع السينمائي العربي. أسّس «الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني» بالتعاون مع «الأرشيف الاتحادي» في برلين، وأصدر كتباً عدة منها: «بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة» (2001)، و«درامية التغيير: برتولت بريشت» (2004)، و«المرئي والمسموع في السينما» (2006)، وكتاب «فلسطين في السينما» (2006)، الذي يُعدّ عملاً مرجعيّاً يوثّق التجارب السينمائية التي تناولت القضية في مختلف مراحل الصراع. كان فيلم «واهب الحرية» (1987) من بين آخر أعماله، إذ استعرض عمليّات المقاومة اللبنانية والفلسطينية التي انطلقت من جنوب لبنان ضد قوات الاحتلال الصهيوني. وقد عُرضت أخيراً نسخة مرمّمة عنه في باريس.
أصدر الناقد المصري الراحل محسن ويفي عام 1995 كتاباً عن الزبيدي وأعماله السينمائية بعنوان «عاشق من فلسطين»، كما أصدر السينمائي السوري محمد ملص كتاباً عنه بعنوان «قيس الزبيدي - الحياة قصاصات على الجدار».
حصد الزبيدي عدداً من الجوائز الدولية والعربية تقديراً لإبداعه، ولعب دوراً بارزاً في تطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، أثّرت بشكل كبير في الإنتاجات الوثائقية والروائية في العالم العربي. توفيَ عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عاماً بعد صراع طويل مع المرض.
المصدر: الأخبار