فكر حر
نوبل هان كانغ...صرخة من أجل فلسطين؟

محمد صبحي

الخميس 14 تشرين الثاني 2024

فازت الروائية الكورية الجنوبية هان كانغ بجائزة نوبل للآداب، متغلّبة على أدباء كبار وصلوا إلى اللائحة المختصرة مثل توماس بينشون، وهاروكي موراكامي، وسلمان رشدي، وجيرالد مورنان، والكاتبة الصينية المفضّلة كان شيويه. مثل أقرانها، صُدمت هان كانغ بعد تلقّيها المكالمة التي أبلغتها بفوزها. وعندما سُئلت عما ستفعله بعد ذلك، قالت بهدوء إنها "ستتناول الشاي مع ابنها". رفضت عقد مؤتمر صحافي، متعلّلة بأنه "مع اندلاع الحروب بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل وفلسطين، وورود أخبار عن وقوع ضحايا كل يوم، لن تتمكّن من عقد مؤتمر صحفي احتفالي". وطلبت تفهّم الأمر.
 
تتويج هان كانغ غير المتوقع، هو أقرب ما يمكن للجنة نوبل أن تصل إليه للاعتراف بالإبادة الجماعية الفلسطينية. لم تذكر هان كانغ نفسها فلسطين حتى نبأ حصولها على جائزة نوبل الأخيرة. لكن من الواضح أن جائزتها هي انعكاس للحظة التاريخية الحالية. بالطبع، لا يمكن افتراض موقف لجنة نوبل من الإبادة الجماعية الفلسطينية. بالتأكيد، كانت لجنة نوبل ستُصلب من قبل القوى المؤسسية إذا منحت الجائزة لكاتب أو شاعر فلسطيني مستحق؛ ولا يمكنهم المخاطرة بتكرار هجوم هارولد بينتر العلني على الوحشية والنفاق الغربي.
 
لكن جوائز نوبل دائماً بيانات سياسية، تقع في اللحظة السياسية، وعلى خلفية الإبادة الجماعية التي يتم بثها مباشرة والفظائع اليومية، فمن غير المعقول أن تكون الإبادة الجماعية الفلسطينية بعيدة من أذهانهم أو يتم تجاهلها في مداولاتهم.
 
لهذا، فمنح جائزة نوبل لهان كانغ، هو هذا الاعتراف غير المباشر. ومن بين اللائحتين القصيرة والطويلة، تعدّ الكورية، الكاتبة المعاصرة الوحيدة التي كرّست حياتها لتوثيق أهوال الفظائع التاريخية والمذابح الجماعية التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الإمبريالية وعملاؤها. وتقترح لجنة نوبل هذا من خلال الثناء عليها "لنثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، وتصف عملها بأنه "أدب شاهد" و"صلاة تخاطب الموتى" وأعمال فنية حدادية تسعى إلى منع المحو.
 
صدى فلسطين
 
 
لا يغيب صدى فلسطين عن وصف الأعمال الرئيسة لكانغ. في كتابها "أفعال بشرية"، كتبت عن آثار المذابح التي ارتكبتها ديكتاتورية عسكرية مدعومة من الولايات المتحدة ضد المدنيين في مدينة غوانغجو بموافقة أميركية. في ذلك الوقت، لم تكن الولايات المتحدة تريد تكرار سقوط شاه إيران، حيث أسقطت الاحتجاجات الشعبية ديكتاتوراً مدعوماً من الولايات المتحدة. وبدلاً من ذلك، سمحت إدارة كارتر بنشر قوات من كوريا الجنوبية (كانت في ذلك الوقت تحت السيطرة العملياتية الأميركية الكاملة) لإطلاق النار على/وقتل طلاب ومواطنين محتجين على الانقلاب العسكري الأخير المدعوم أميركياً. وكما هي الحال في الوقت الحالي، صوَّرت الولايات المتحدة نفسها كمتفرّج عاجز عن منع القتل الجماعي، متورطة لكنها غير قادرة على منعه، في حين كانت في الواقع هي الضامن والوكيل للمذابح.
 
وثّق الكاتب تيم شوروك بوضوح هذا الازدواج الأميركي: "كانت غوانغجو مأساة لا توصف ولم يتوقع أحد حدوثها"، كما نقل شوروك عن مسؤول في وزارة الخارجية أضاف أن وزارته ما زالت تعتقد أن الولايات المتحدة "لا تتحمّل أي مسؤولية أخلاقية عما حدث في غوانغجو". لا يكلّف كتاب هان كانغ نفسه عناء اتهام الولايات المتحدة. فهو ليس كتاباً سياسياً، ومعظم الناس في كوريا الجنوبية يعرفون هذه الحقائق من البداية إلى النهاية. وبدلاً من ذلك، تعيد إحياء المعاناة الإنسانية لهذه المذبحة من وجهة نظر شخصيات متعددة: المحزونون، والقتلى، والمعذَّبون، والمقاومون، والأحياء المذنبون؛ بمن فيهم كانغ نفسها.
 
مذبحة غير مفلترة
 
 
تبدأ الرواية بركام من مئات الجثث المتحللة في مشرحة مؤقتة، يعتني بها صبي صغير، دونغ هو، وهي تُظهر لنا كيف هي الرائحة والشعور عندما نلمس مذبحة غير مفلترة. دونغ هو، في الواقع، بديل لشخص حقيقي، مون جاي هاك، طالب المدرسة الثانوية الذي قُتل بالرصاص في غوانغجو.
 
تكشف هان كانغ أن دونغ هو/جاي هاك، انتقل إلى غرفة في المنزل الذي أخلته كانغ نفسها قبل أربعة أشهر عندما انتقلت عائلتها بالصدفة من مدينة جوانغجو. من الواضح أنه لولا القدر، لكان من الممكن أن تكون كانغ نفسها بسهولة ذلك الطفل الميت. يصبح هذا النمط واضحاً عندما ينجو دونغ هو، من المناوشة الأولى، ويهرب من إطلاق النار، بينما يسقط رفيقه. تكتب كانغ: "كنت سأهرب... كنت ستهرب. حتى لو كان أحد إخوتك، أو والدك، أو والدتك، فما زلت ستهرب... لن يكون هناك غفران. تنظر في عينيه، اللتين ترتعشان من المشهد المعروض أمامهما وكأنه أكثر شيء مروّع في هذا العالم. لن يكون هناك غفران".
 
لا تغفر لنفسها بقاءها على قيد الحياة، ولا تحاول كانغ ذلك: "أنت لست مثلي... أنت تؤمن بكائن إلهي، وبهذا الشيء الذي نسمّيه الإنسانية. لم تتمكّن أبداً من هزيمتي... لم أستطع حتى اجتياز صلاة الربّ من دون أن تجفّ الكلمات في حلقي. اغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر لمن أخطأوا ضدّنا. لا أغفر لأحد، ولا أحد يغفر لي".
 
إنها تشهد ببساطة انكساراً: "ما زلت أتذكّر اللحظة التي سقطت فيها نظراتي على وجه امرأة شابة مشوّهة، وملامحها مقطوعة بحربة. بصمت، ومن دون ضجة، انكسر شيء رقيق عميق بداخلي. شيء لم أكن أدرك حتى ذلك الحين أنه موجود".
 
وتندب ما لا يمكن رثاؤه: "بعد وفاتك لم أستطع إقامة جنازة، لذا أصبحت هذه العيون التي نظرت إليك ذات يوم مزاراً. أصبحت هذه الأذنان التي سمعت صوتك ذات يوم مزاراً. أصبحت هذه الرئتان التي استنشقت أنفاسك مزاراً... بعد وفاتك لم أستطع إقامة جنازة. وهكذا أصبحت حياتي جنازة".
 
وتدين ما يمكن أن يكون بسهولة صدى لعقيدة "العماليق" الإسرائيلية الحالية: "في تلك اللحظة، أدركتُ سبب هذا كله. الكلمات التي كان من المفترض أن يثيرها هذا التعذيب والتجويع. سنجعلكم تدركون مدى سخافة الأمر، سنثبت لكم أنكم لستم سوى أجساد قذرة كريهة الرائحة. أنكم لستم سوى حيوانات جائعة".
 
في رواية أخرى، "لا أقول وداعاً"، تحكي قصة أولئك الذين لقوا حتفهم، واختفوا، ودُفنوا، بلا وداع. يمثّل العنوان رسالة لأولئك الذين اختفوا، ولقوا حتفهم تحت الأنقاض، أو اختفوا في مقابر جماعية، في تأكيدٍ على أنهم لن يضيعوا، ولن يُهجروا، ولن يُنسوا. أنشودة للصداقة والخيال، وقبل كل شيء إدانة قوية للنسيان، قيمتها تتجاوز كونها مجرد رواية، بل عمل يكشف بوضوح ذكريات صادمة بقيت مدفونة على مدار عقود.
 
غزة أخرى
 
 
عبر صورة من حلمٍ لا يلين، وسطر مستخلص من أغنية بوب في سيارة أجرة، تروي قصة إبادة جماعية حرّضت عليها الولايات المتحدة في جزيرة جيجو العام 1948، حيث قُضي على 20 في المئة من السكان، ثم قصفهم، وذبحهم، وتجويعهم حتى الموت تحت قيادة الحكومة العسكرية الأميركية في كوريا. نسخة أخرى من غزة، لكن بعيون ضيقة والكثير من الثلج الكوري.
"- حتى الأطفال؟
 
 
- نعم، لأن الإبادة الكاملة كانت الهدف".
 
بعد استسلام اليابان، نهاية الحرب العالمية الثانية، عُهد بكوريا ما بعد الاستعمار إلى وصاية مشتركة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. في 15 آب/أغسطس 1945، أعلن الشعب الكوري التحرير وتأسيس جمهورية كوريا الشعبية، وهي دولة اشتراكية محرّرة تتألف من آلاف العمال والجمعيات الفلاحية المنظمّة ذاتياً. كان الاتحاد السوفياتي مؤيداً، لكن الولايات المتحدة أعلنت الحرب على هذه الجماعات، وحظرت جمهورية كوريا الشعبية، وأجبرت الجنوب على التصويت ضد إرادة الكوريين الذين لم يريدوا دولة مقسَّمة، وأُطلقت حملة سياسية ضد مَن عارضوا أو قاوموا. كانت جزيرة جيجو واحدة من الأماكن التي وصلت فيها المذبحة إلى أبعاد إبادة جماعية، قبل أن تتوّج بالإبادة الجماعية الكاملة للحرب الكورية. تم التستّر على هذه الإبادة الجماعية ومحوها لمدة نصف قرن، حيث لم يُسمح حتى بكلمة واحدة من الحقيقة. لهذا، تداوم هان كانغ على استخدام مجاز الثلج:
 
 
"كانت مجموعة من أربعين منزلاً، أو نحو ذلك، تقف على الجانب الآخر، وعندما صدرت أوامر الإخلاء في العام 1948، أُضرمت النيران فيها جميعاً، وذُبِح سكانها، وأُحرقت القرية.
 
 
أخبرتني كيف قتل الجنود والشرطة كل من في قريتها عندما كانت صغيرة...
 
 
في اليوم التالي، بعد سماع الأخبار، عادت الأختان إلى القرية وتجوّلتا في أراضي المدرسة الابتدائية طوال فترة ما بعد الظهر. بحثتا عن جثث أبيهما وأمهما، وشقيقهما الأكبر وشقيقتهما البالغة من العمر ثماني سنوات. ألقيتا نظرة على الجثث التي سقطت في كل اتجاه فوق بعضها البعض ووجدتا أنه بين عشية وضحاها، غطّت طبقة رقيقة من الثلج كلّ وجه وتجمّدت عليه. لم تتمكّنا من التمييز بين الأشخاص بسبب الثلج، وحين لم تستطع عمّتي إزالته بيديها العاريتين، استخدمت منديلاً لتنظيف الوجوه..."
 
الثلج، بالنسبة إلى كانغ "صمت"، فيما المطر "جملة".
 
 
هذا هو موضوع كتبها: تنظيف الجثث، وإزالة الدمّ والثلج بدقّة، لرؤية الأشياء بوضوح، ومحاولة استعادة بعض الكرامة والحقيقة، بصرف النظر عن الألم المبرح. الكتاب نفسه عبارة عن عملية تنقيب ــ سباق تتابع، كما قالت ــ تمرّ عبر ثلاث شخصيات نسائية، كل منهن تحفر أكثر في الحقيقة المروعة، "إلى قاع محيط الرعب".
 
"كان من الممكن أن تتكاثف الثلوج التي تساقطت على هذه الجزيرة وفي أماكن أخرى قديمة بعيدة داخل تلك السحب. عندما مددتُ يدي في الخامسة من عمري لألمس أول ثلوج جيجو، وعندما غمرتني فجأة في الثلاثين زخّة مطر تركتني غارقة بينما كنت أركب دراجتي على طول ضفة النهر في سيول، عندما حجبتْ الثلوج وجوه مئات الأطفال والنساء وكبار السن في ساحة المدرسة هنا في جيجو قبل سبعين عاماً... من الذي يستطيع أن يقول إن قطرات المطر تلك وبلورات الثلج المتفتتة والطبقات الرقيقة من الجليد الملطخ بالدماء ليست هي نفسها، وأن الثلج الذي يستقر فوقي الآن ليس هو الماء ذاته؟"
 
وبينما تكشف ــ وكأنها "مهمة منزلية صعبة" ــ مذابح بودو ليغ، وجيجو، وفيتنام، وغوانغجو، تحاول أن تربط كل هذه الأحداث في خيطٍ متواصل باستخدام "أداة مستحيلة" ــ قلب لغتها المتلألئ ــ يحرّكها "حب ّشديد لا ينضب" ورفض عنيد للابتعاد أو إشاحة النظر. تتذكّر هان كانغ نفسها في سن صغيرة للغاية عندما أدركت للمرة الأولى الفظائع في كتاب سرّي، ومن ثمّ شكّلت السؤال الذي سيسكن كتابتها لاحقاً:
 
 
"بعدما مُرّر بين البالغين، أُخفي في خزانة كتب، وكان ظهر الكتاب مطوياً إلى الخارج. فتحته من دون قصد، ولم تكن لدي أي فكرة عما يحتويه. كنت أصغر سنّاً من أن أعرف كيف أستقبل الدليل على العنف الساحق الذي كان موجوداً في تلك الصفحات.
 
 
كيف يمكن للبشر أن يفعلوا مثل هذه الأشياء ببعضهم البعض؟
 
 
في أعقاب هذا السؤال الأول، تبعه سؤال آخر سريع: ماذا يمكننا أن نفعل في مواجهة مثل هذا العنف؟".
 
سؤال هان كانغ ينبغي أن يحرّكنا جميعاً، لأننا أيضاً نواجه ما يحدث. لا أحد منا يستطيع أن يتجاهل ما يحدث أمام عيوننا. والواقع أن الفرنسيين يستخدمون صياغة مناسبة: نحن نشهد ـ أو بعبارة أخرى، نساعد، بطريقة أو بأخرى ـ على ارتكاب إبادة جماعية.
 
وكما هو بائن، فالصور التي نراها من غزة كل يوم: أطفال ممزّقون، أكوام من الجثث المشوّهة، تجريد الناس من إنسانيتهم ​​في معسكرات تعذيب، بشر يحرقون أحياء... لا يمكن تمييزها أخلاقياً عن الصور التي نراها في متاحف الهولوكوست وجرائم البشرية النكراء الأخرى. إنها شرّ خالص على نطاقٍ مرعب. ماذا يمكننا أن نفعل؟ يجب على كل منا مواجهة هذا السؤال بشكل فردي وجماعي، ويجب علينا جميعاً، معًا، اتخاذ إجراء.
 
 
المصدر: المدن