فكر حر
البطريرك أسطفان الدويهي وعودة الروح إلى المارونيّة الأنطاكيّة

سركيس أبو زيد

الثلاثاء 12 تشرين الثاني 2024

مار مارون الناسك القديس، شفيع الموارنة.
 
 
البطريرك الأول يوحنا مارون المؤسس الأسطوري للكنيسة المارونية.
 
 
أمّا البطريرك أسطفان الدويهي فهو المؤسس التاريخي للطائفة المارونية.
 
 
فهو الذي كتب تاريخها ونسّق أفكارها وصاغ معتقداتها وقدمها بشكل متماسك جامعاً التراث الأصيل الانطاكي إلى جانب التواصل مع روما. وبمناسبة تطويبه، موارنة اليوم في حاجة ماسة إلى تذكّر البطريرك أسطفان الدويهي حتى يتشبّهوا بأفعاله وأقواله وكتاباته وتجاوز الشكليات والرسميات.
 
سوف نتوقّف عند محطات في مسيرته لنستلهم منها الدروس والعبر العميقة التي عبّر عنها، ونستخلص رؤية حضارية للغد نابعة من الواقع والتراث والهوية:
 
الدويهي: سيرة معرفة وتقوى
 
البطريرك أسطفان الدويهي ( 1630- 1704) من عائلة لها تاريخ عريق. تعود جذورها إلى ما قبل العام 1400 وأصولها من بلدة صدد السورية أو حلب أو دويه العراقية، أو فرنسا وفق ادّعاء البعض. جاءت إلى لبنان، وما زالت موجودة في صدد السورية وهي بلدة سريانية. كما انتشرت فروع من العائلة في قرى لبنانية ووصلت فروع منها إلى قلعة جندل عند جبل الشيخ.
 
 
ولد الدويهي في إهدن التي "خيل لكثيرين أنّها عدن أو الفردوس الأرضي"، له مؤلف مفقود في هذا المجال. ويقول الدويهي: "إننا من طائفة الدويهية المشهورة في التقوى والعلم وسياسة الشعب".
 
 
وهكذا ربط الدويهي بوعيه المبكر القداسة مع المعرفة إلى جانب الديمقراطية التي هي سياسة الشعب لخدمة الشعب، وليست سياسة الحكّام والسلاطين والبلاط حيث تجري ألاعيب المسؤولين بعيداً عن حقوق ومصالح وأحلام المواطنين.
 
 
هو خرّيج المدرسة المارونية الرومانية التي تأسست عام 1584.
 
 
في روما مرض الدويهي وفقد بصره، ثمّ استعاده بفضل إصراره للتغلّب على الصعوبات.
 
 
خلال إقامته في إيطاليا؛ رفض الانخراط في سلك الرهبنة اليسوعية ورفض عروض مالية مغرية تلقاها من أغنياء أوروبا، وأبى البقاء في أوروبا كأترابه بل أصرّ على العودة إلى وطنه ليبقى قريباً من أهله وليعلمهم وينشر الثقافة في ما بينهم.
 
 
جمع تراث الموارنة في الغرب وكتب التاريخ والليتورجيا للدفاع عن طائفته لأنّ كلّ جماعة تجهل ماضيها وأصل معتقدها القديم تفقد هويتها.
 
 
عاد عام 1655، وأمضى في حلب 5 سنوات فكان صلة الوصل بين المسيحيين الشرقيين وروما. غادر حلب عام 1668 إلى الأماكن المقدسة. واتّجه إلى قبرص يجمع الأثار ويتفقّد الرعية.
 
 
في 20 أيار 1670 انتخب بطريركاً ضدّ رضا بعض قيادات الطائفة مثل الشيخ نادر الخازن ابن نوفل.
 
 
نشب صراع سياسي بين حسن باشا متسلم طرابلس، وآل حمادة زعماء الجبة آنذاك. طارد العسكر العثماني الحماديين بسبب المال المطلوب من جباية الضرائب. فاضطر البطريرك إلى الابتعاد عن الخلافات والمناوشات والهرب من وجه الظالمين والاستعانة بعدالة الباب العالي.
 
الدويهي: رائد التربية والزهد
 
عرف الدويهي بأنّه "قطب دهره وفريد عصره"، وهو من كبار رواد النهضة الثقافية والعلمية في لبنان، عمل ضد التتريك، وضد التبعية لبيزنطية. وجهد في رسم دور الموارنة ورسالتهم من ضمن علاقاتهم مع المحيط الانطاكي والاسلامي، وكان انفتاحه المبكر والملفت على الطوائف والمذاهب الأخرى في جبل لبنان وجواره.
 
 
من خلال مسيرته الروحية والنضالية، جسّد الدويهي المعرفة والرسالة والتقوى. إنّه العالم المعلّم القدّيس:
 
 
1) هو العالم لكثرة مؤلفاته في مجالات عدة، إنّه المؤرخ و اللاهوتي والليتورجي.
 
 
وينطبق عليه القول الشهير "عالم كماروني".
 
 
أدرك الدويهي أنّ وعي الذات الماروني، لا يكتمل إلّا بوعي انتمائها الشرقي. فكتب تاريخ الموارنة دفاعاً عن هويتهم ورسالتهم. وكتب تاريخ الشرق حيث المارونية تتفاعل مع محيطها سلباً و إيجاباً.
 
 
وفي كتابه تاريخ الأزمنة عرض مسيرة الطائفة المارونية من ضمن المحيط الاسلامي الذي عاش فيه. وكتب تاريخ المسلمين.
 
 
2) تعلّم وعلّم الأطفال تحت السنديانة في إهدن، وعلى منابر حلب. عمل على تعميم التعليم وتنظيمه. يقول: "الشرق يفتقر لمن يعلمه ثمّ يهديه". يطمح إلى تثقيف الشعب وتأمين التربية، لأنّ القيادة للمتعلمين، وكان قدوة في التبشير الحياتي والعملي للرهبان. أسس مدرسة في حلب ولقّب "بفم الذهب الثاني". كما أسّس مدارس كثيرة وشجّع الراهب ليكون المعلّم والعامل في الحقل مع رعيّته.
 
3) قداسته: انقطع عن أكل اللحم طوال حياته وامتنع عن المأكل الفاخر ورضي بكلّ ما يأكله رهبانه، وانقطع في المغاور والأودية حيث كان يختبئ للصلاة. يقول من الأفضل "أن نميت الجسد أحياناً بشيء يسير فنربح أشياءَ تفيد نفوسنا". عاش الفضائل الرهبانية وهي تدلّ على ترفّعه عن الغنى الزائف والأوهام، وصولاً إلى الغنى الحقيقيّ وأصالة الأعماق وثباتها. إنّه الانصراف عن اللذة إلى الفرح والتقرّب من الله لا من الكائنات العابرة. وما أحوج الموارنة اليوم إلى التأمّل والزهد من أجل تنقية النفوس وترقيتها إلى ولادة جديدة.
 
شجّع على تأسيس الرهبنة. ووشح مصلحي الحياة الرهبانية بالاسكيم الملائكيّ سنة 1695، وثبّت قانونها عام 1700. فكانت انطلاقة الرهبانية الحلبية التي عرفت في ما بعد بالرهبانية البلدية أو اللبنانية. فكانت بداية التنظيم الرهباني في الكنيسة المارونية. والمصلحون هم جبرائيل حوّا وعبدالله قرالي ويوسف البتن وجميعهم من حلب. وأقاموا في دير مارت مورا في إهدن.
 
الدويهي: قدوة الإصلاح والتجديد
 
جمع الدويهي العلم والعمل وأعاد صياغة الهوية المارونية بأسلوب مبدع، وكانت لغته الأصلية السريانية التي تكلّم بها المسيح وتميّز بها أهل البلاد عن اللغة اليونانية التي كانت سائدة وذلك تعبيراً عن كنيسة وطنية مستقلة، لم تندمج بروما رغم محاولات "الليتنة". وقد تمسّك الدويهي بخطّها التراثي السرياني الانطاكي والاحتفاظ بروحانية الناسك مارون وبالحضارة الوطنية الأصيلة والانفتاح مع المحافظة على التراث دون تقوقع وانعزال. وطوال حياته تمسّك بهوية النسك والزهد،  وهو يعبّر عن إرث مسيحي إنطاكي عريق. وكان ضدّ التدويل البيزنطي للمسيحية وضدّ التتريك في الزمن العثماني.
 
التجديد والإصلاح الذي أطلقه الدويهي هو حاجة ماسة اليوم من أجل إصلاح الكنيسة المارونية والمؤسسات التابعة لها وتجديد معنى السياسة بمضمونها الإنساني والشعبي من أجل إخراج الموارنة من الإحباط والضياع والتشرذم.
 
 
وموارنة اليوم في حالة من الحيرة والضياع، يفتشون عن قيادة روحية وسياسية تعبّر عن حضورهم الحضاري ودورهم النهضوي الرائد ورسالتهم في لبنان ومحيطهم الإنطاكي الأرحب.
 
في زمن نتأرجح فيه بين العولمة والانعزال، بين تغليب المدنية المادية وفقدان القيم والأخلاق، كم نحن في حاجة إلى عودة الروح إلى الروحانية المارونية، وإعادة الاعتبار إلى مثاليات التنسّك والزهد واحترام الإنسان، الطريق الوحيد أمام موارنة اليوم من أجل بناء مارونية حضارية فاعلة في لبنان والمحيط الإنطاكي. وكم نحن في حاجة إلى قيادات روحية وسياسية تتمثّل بالبطريرك الدويهي القدوة في تجسّد الله على أرض أنطاكيا، وطوق الإنسان إلى القداسة والروحانيات والتزام السياسة لخدمة الشعب حتّى يكون لبنان رسالة حضارة ومنارة في المشرق.