فكر حر
إيليّا أبو ماضي: "وطن النجوم أنا هنا"

ميشال معيكي

الأربعاء 10 أيلول 2025

أولادًا كنّا، بالمراويل والكراريس ورائحة عرائس الزعتر. وكنّا نرندح "كُلّنا للوطن"، ونُتبعُه بـ "وطن النجوم"، ونتباهى ببيت: "ولكم تشيطنَ كي يدورَ القولُ عنه تشيطنا"! ثمّ فهِمنا أنّ الولد الأزعر المهضوم، هو إيليّا أبو ماضي من ضيعة المحيدثة، جارة بكفيّا اللَّزَم. شاعر مَهجريّ كبير... من لبنان زمن العثمنة الظلاميّة، إلى أرض الخديوي هربًا من "الباب العالي" و "سفر برلك"، ومن هناك إلى "الأرض الجديدة" وأحلام الحياة والأفق الآخر! بحرًا، في مركب الأمواج كتب:
 
"نيويورك يا بنت البحّار بنا اقصدي فلعلّنا بالغرب ننسى المشرقا".
 
باكرًا، بدأ مشواره الشعريّ في مجلة "الزّهور" القاهريّة لأنطون الجميّل، ثمّ إلى نيويورك. نيسان 1920، في بيت مؤسِّس مجلّة "السّائح" عبد المسيح حدّاد، تلك العشيّة النيسانيّة، وكان جبران ونعيمة ونسيب نمر ورشيد أيوب، وانطلاقة "الرابطة القلميّة" لنشر إبداع اللبنانيين المهجريّين. وفي أهدافها بقلم نعيمه: "دفعُ الروح الجديدة للخروج بأدبنا من التقليد الجامد، إلى الابتكار الخلّاق"...
 
وبدأت علاقة بين أدباء المهجر والحنين والطموحات. استشعر جبران باكرًا موهبة الرّجل، فقدّم لديوانه "تذكار الماضي" (1946): "أبو ماضي شاعر كبير، يصعد إلى الملأ الأعلى بعزم الروح. وفي ديوانه، سلالم بين المنظور واللّامنظور، وحبالٌ تربط مظاهر الحياة بخفاياها!"
 
أعماله الشعرية من "تذكار الماضي" إلى "الخمائل"، فـ "الجداول" و "تبر وتراب"، إلى "ديوان أبو ماضي". كتب في الحبّ والمرأة والسياسة والحياة والموت والما بعد، وفي الدِّين والتديُّن والزعامات والمال والفقر والحنين، وأسئلة القلق والوجود والمصير...
 
لم يُعرف عنه موقفٌ سياسيٌّ محدّد. كتب نقدًا لأوضاع زمانه في لبنان، زمن العثمانيّين، والمنطقة والعالم. في قصيدة "وداع وشكوى":
 
"وحكومةٌ ما إن تزحزح أحمقًا
 
عن رأسنا حتى تُوَلّي أحمقا
 
وأبت سوى إرهاقنا فكأنما
 
كلّ العدالة عندها أن تُرهِقا".
 
وفي أحوال الناس يومها:
 
"شعبٌ كما شاء التخاذلُ والهوى مُتفرّقٌ ويكادُ أن يتمزّقا".
 
وكان لماضي موقفٌ حادّ من "وعد بلفور" لليهود في فلسطين:
 
"ألا ليت بلفورُ أعطاكم
 
بلادًا له، لا بلادًا لنا
 
فلندن أرحب من قدسِنا
 
وأنتم أحبُّ إلى لُندُنا!".
 
في الواقعية العقلانيّة، وفي رأيه بالرحيل الأخير: "نظنّ لنا الدنيا وما في رحابها، وليست لنا إلّا كما البحرُ للسفن". وتبقى قصيدة "الطلاسم"، كما "المواكب" لجبران، تطرح أسئلةَ الوجود الكبرى في فكر أبي ماضي:
 
"جئتُ لا أعلم من أين؟ كيف جئتُ؟".
 
ويسقط في الفراغ الصعب، مُجيبًا:
 
"لستُ أدري"!
 
ويُشيحُ أبو ماضي عن تساؤلات التعجيز، على الطريقة النوّاسية:
 
"هاتِ اسْقني الخمرَ جهرًا
 
ولا تبالِ بما يكون
 
إن كان خيرًا أو كان شرًّا
 
إنّا إلى الله راجعون".
 
إيليّا أبو ماضي، المجهول لدى جيلِ الشباب - عامةً - له علينا الكثير. تعريفًا بأدبه، شعرًا ونثرًا ومقالات فكريّة - سياسيّة - نضاليّة، مبعثرة في الولايات المتحدة الأميركيّة، نُشرت كتابات على صفحات "السمير" تنتظر جمعًا ونشرًا، إضافةً إلى سعي واجب لإطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة، وإلى إصدار طابع بريديّ تذكاريّ، إلى إقامة الأمسيات والندوات وتشجيع طلاب الآداب في الجامعات لتقديم أُطروحاتٍ حول أدب هذا الرجل.
 
في الذاكرة، إيليّا أبو ماضي واحد من كبارنا من زمن الكِبر والإبداعات، يعبر حواجز الجغرافيا أمانةً لأجيال تأتي. إيليّا أبو ماضي... ألفُ وردة.
 
 
قصائد من إيليا أبو ماضي
 
وطن النجوم
 
وطن النجوم أنا هنا
 
حدّق... أتذكر من أنا؟
 
ألمحتَ في الماضي البعيد
 
فتى غريرًا أرعنا؟
 
جزلان يمرح في حقولك
 
كالنّسيم مُدندنا
 
المُقتنى المملوك ملعبُهُ
 
وغيرُ المقتنى!
 
يتسلّق الأشجار لا ضجرًا
 
يحسُّ ولا ونى
 
ويعودُ بالأغصان يبريها
 
سيوفًا أو قنا
 
ويخوضُ في وحلِ الشتاء
 
مُهلِّلًا متيمّنا
 
لا يتّقي شرّ العيون
 
ولا يخاف الألسُنا
 
ولَكَم تشيطَن كي يقول
 
الناسُ عنه "تشيطنا"
 
 
 
الطلاسم
 
جئتُ، لا أعلمُ من أين، ولكنّي أتيت
 
ولقد أبصرت قُدّامي طريقًا فمشيت
 
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
 
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
 
لستُ أدري!
 
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
 
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود
 
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مَقود
 
أتمنى أنني أدري ولكن...
 
لست أدري!
 
 
وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
 
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
 
أأنا السائر في الدّرب أم الدّرب يسير
 
أم كلانا واقف والدّهر يجري؟
 
لست أدري!
 
 
فلسفة الحياة
 
أيهذا الشّاكي وما بك داء
 
كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
 
إنّ شرّ الجُناةِ في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرحيلِ، الرّحيلا
 
وترى الشوكَ في الورود، وتعمى
 
أن ترى فوقها الندى إكليلا
 
هو عبءٌ على الحياةِ ثقيلٌ
 
من يظنُّ الحياة عِبئًا ثقيلا
 
والذي نفسه بغيرِ جمالٍ
 
لا يرى في الوجودِ شيئًا جميلا
 
 
رأي جبران في إيليّا أبو ماضي
 
"وإيليّا أبو ماضي شاعر وفي ديوانه هذا سلالم بين المنظور وغير المنظور، وحبال تربط مظاهر الحياة بخفاياها، وكؤوس مملوءة بتلك الخمرة التي إن لم تشفها تظلّ ظمآنا، حتى تملّ الآلهة البشر فتغمرهم ثانية بالطوفان".
 
 
المصدر: نداء الوطن