ميخائيل نعيمة: حكايةُ "سبعون" إن سَمِعنا!
ميشال معيكي
الثلاثاء 5 آب 2025
رفيق جبران والريحاني. أحد مؤسِّسي "الرابطة القلميّة" في المهجر الأميركيّ.
وُلد ميخائيل نعيمة في هذه الربوع سنة 1889. من "مدرسة الضيعة" إلى "دار المعلّمين" في الناصرة (فلسطين) سنة 1902.
المرحلة الروسيّة
سافر بمنحة لمتابعة التحصيل في مدينة Poltava (أوكرانيا)، وبقي من سنة 1906 حتى 1911.
المرحلة الروسيّة ربطت نعيمة بعالم الأدب الروسي ومناخ كبار مبدعيه: بوشكين، غوغول، دوستويفسكي. وكتب قصائد بالروسيّة. ولعلّ قصيدة "النهر المتجمّد" (1910) التي كتبها بتأثير من رحلاته إلى نهر غيراسيموفكا المتجمّد شتاءً، مع فاريا المرأة الروسية التي أحبّ، تعكس إلى حدّ بعيد تجدُّدَ الحياة بين جليد الشتاء وتدفُّقِ حرارةِ الصيفِ.
في عام 1911، عاد إلى لبنان لينتقل سريعًا إلى الولايات المتحدة الأميركيّة لدراسة الأدب والحقوق في "جامعة واشنطن".
نكهة مختلفة
المرحلة الأميركيّة بكلّ تأثيراتها، طبعت الكثير من مؤلّفاته.
أميركا، العالم الآخر، البعد الجديد، حيث تعرّف إلى أدبٍ له نكهةٌ مختلفة عبر وجوه ما كان يُعرف بالمدرسة العلائية في الأدب الأميركي (والدو أمرسون، والت ويتمان صاحب أوراق العشب...).
أميركا مرحلةُ الغُربةِ والتمزّق، نيويورك "مدينة الآلات والأزمات"، "الدردور" الرهيب... وكانت ولادة "الرابطة القلميّة" (جبران، نعيمة، نسيب عريضة، عبد المسيح حداد صاحب مجلة "السائح" التي أصبحت منذ العام 1920 لسان حال "الرابطة")، التي أنتجت أدب غربةٍ بالمفهوم الميتافيزيقي (نعيمة وجبران) وتمزُّقًا أرضيًّا وزمانيًّا (مذكّرات الأرقش).
التّوق إلى الخلاص
في إحدى رسائلها كتبت صديقةُ جبران، ماري هاسكل: "يذكّراننا - (نعيمة وجبران) - وهما يُنشدان الكُليَّ المُطلقَ في نفسَيهما، متسلقين جبال هملايا، تصعيدًا إلى القمم، بتعب شديد!".
هذا التوق إلى الحرّية والخلاص يوجزه جبران في إحدى رسائله إلى نعيمة: "أقول لك يا ميخائيل، إنّ المستقبل سيجدنا في صومعةٍ قائمة على كتف وادٍ من أودية لبنان. إنّ هذه المدينة الغشّاشة قد شدّت أوتارَ روحَينا حتى كادت تتقطع. علينا أن نرحل يا ميشا قبل أن تنقطع...".
وتنتهي "الرابطة القلميّة" عند حافة سرير جبران المسجّى في "مستشفى القديس فنسنت" في نيويورك 1931.
العودة إلى الجذور
نعيمة يُسبل جفون صديقه للمرة الأخيرة، وينسحبُ وحيدًا إلى لبنان، إلى "شخروبِ" وحدته بعيدًا من نيويورك "تنّينِ البحرِ والبر"...
بسكنتا، "الشخروب"، لقاء "مرداد"، الخلاص والعودة إلى الجذور!
ترك ميخائيل نعيمة مؤلّفات كثيرة تناهز الأربعين كتابًا بالعربية والإنكليزية. راوح إنتاجه بين النقد: "الغربال"، والسيرة: "جبران" - "سبعون"، والقصة والأقصوصة: "اليوم الأخير" - "أكابر" - "أبو بطة"، إلى التأمّل الفلسفي والفكري: "كتاب مرداد" و "مذكرات الأرقش".
أسلوب وشخصيّات
صاحب أسلوب صريح، مباشر، مع حبكة قصصيّة تؤدّي إلى عبرة. موضوعاته تتناول المصير، والذات في صراعها لبلوغ الكون.
يخلق شخصيات وهميّة (مرداد - الأرقش)، ويحرّكها لتوضيح أفكاره.
صاحب فكر انتقائيّ، يفتح نوافذ وسيعة للتفكير، يحرّض على التأمل والنقاش، من دون أن يطرح نظامًا فلسفيًّا متكاملًا.
متأثرٌ بالفلسفات الشرقية القديمة وببعض شذرات مفكّري أوروبا (باسكال - ديكارت...).
يؤمن بالإنسان الذات، يحاول التحرّر من الترابية، ويصبو إلى الاتحاد بالأبعاد وتجاوز الحدود.
فرخ إله
لخّص موقفه من الوجود، وطروحاته الفكرية. في أحد حواراتنا (الصّياد - 27 تشرين الأول 1977) قال: "أنا متديّن على طريقتي. أنا مسيحي وبوذي وطاويّ! أخذت من الفلسفات الهندية ما ينسجم مع تفكيري وتكويني الجسداني والعقلاني والروحاني، ونبذت كُلَّ ما لا ينسجم معي في الأديان والفلسفات (...). الإنسان فرخ إله يتدرّج على مدى الزمان، لا على مدى عمر واحد. فيصبح مجرّدًا من كلّ الشهوات".
يبدأ دائمًا بسلسلة تساؤلات: "أين كنّا؟ ولماذا وُجدنا؟ ما القصدُ من ولادتنا على الأرض؟ هل الموت نهايةُ العمر والحياة؟ هل هناك حياةٌ بعد الموت؟".
في تحديده لغائيّة الحياة يقول بشاعريّة فلسفيّة: "إنّ حياةَ الإنسان على الأرض، ليست سوى غفلةٍ يكتنفها ضبابُ الموت. وإنّ أجملَ ما فيها حلمٌ يخترق ضبابَ الموت، إلى يقظةِ الحياة المثلى، ويرفعُ الإنسانَ إلى اللّه!".
دولة الإنسان
في كتابه "سبعون"، يُعلن نعيمة يأسه من الأنظمة السياسية في المدنيَّة الحديثة. يقول: "لقد بتُّ أحملُ سمةً، بدونها لا أستطيع أن أتجاوز حدودَ بلدي الصغير، فالأرض ليست أرضي إلّا بمقدار، ولن أُفلتَ أبدًا من اسمي ومن مسقطِ رأسي وتاريخ ولادتي، ومن رعويتي لدولةٍ من الدول!".
وكما الكثيرين من رجال الفكر، يتطلّع إلى مشروعِ إنسان عظيم في نظام كوني - طوباوي طبعًا.
"نحن سائرون إلى دولة تتلاشى فيها الحدود!". ثم يطلقُ صيحةً من أعالي "الشخروب"، منحدرِ الصّوان، يعلن فيها نواميسَ دولةِ الإنسان:
"لقد آن للإنسان أن يستعبد الأرضَ التي استعبدتْه. كفانا خدمة للموت أيها الناس! آن لنا أن نخدمَ الحياة... أَتَمضون في تجزئة الأرض؟! وتُقيمون الجنودَ والحصون؟! (...) إنه لأَيسر أن تُقيموا حدودًا بين أمواج البحر والرياح وأشعة الشمس، من أن تقيموها بين إنسان وإنسان! لِتَقُمْ على أكتافِ دويلاتِ الناس، دولةُ الإنسان. لقد آن الأوان، أيها الإنسان!".
ابتهال
ميخائيل نعيمة، حدِّثنا من هناك، وقد صار الجسدُ امتدادًا في العناصر وفي الزمان... أيها "الأرقشُ" الناهدُ إلى المعرفة، المنعتقُ من ترابِ الفناء، حدِّثنا عن السماءِ التي شغلت الشرق عن الغرب، والآخرة عن الدنيا. قُلْ بعدُ عن الشرقِ البصير، الواقف ممدودَ اليد نحو الغرب وفي يساره قائمةٌ بأسفاره المقدسة وأسماءِ أنبيائه وقدّيسيه:
من يقايضُني قنبلةً بسِفر، أو دبابةً بكتابِ أولياء، من يقايضُني مخترعًا واحدًا بعشرةِ أنبياء؟
في حوار مع القلم، في شبه نشيدِ ابتهال ووَداع، كتب ميخائيل نعيمة قُبيل الغروب:
"أمهلني قليلًا بعد يا قلمي. قليلًا وترتاح مني، وأرتاح منك. أمهلني، ففي السِّراج ما تزالُ بقيةٌ من الزيت. وفي الدَّواةِ بقيةٌ من المِداد!".
المصدر: نداء الوطن