جورج إبراهيم عبدالله السجين المسيحي - اللبناني الذي صمد أكثر من خصومه
العرب اللندنية
الجمعة 18 تموز 2025
أربعة عقود خلف القضبان لم تغيّر قناعاته المناصرة للقضية الفلسطينية.
منذ أربعين عاما يقف جورج إبراهيم عبدالله على الضفة الأخرى من النسيان، سجينا في زنزانة فرنسية لا تشبه شيئا سوى قناعاته الصلبة. رجلٌ لم يتزحزح عن مواقفه، ولم يتراجع عن لغته، حتى وهو يشيخ في العزلة.
في فرنسا يُصنَّف “إرهابيّا” ارتكب جرائم تآمر واغتيال، بينما يُنظر إليه في أوساط عربية ويسارية كرمز لمقاومة الإمبريالية. وبين هذين التعريفين عاش عبدالله أربعة عقود لم يُظهر فيها أي ندم.
وُلد جورج في قرية القبيات في شمال لبنان عام 1951، لعائلة مسيحية من الطبقة الوسطى. التحق منذ مراهقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وتدرّج في نضاله السياسي، ليجد نفسه لاحقا ضمن صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إثر إصابته خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978.
ترك مهنة التعليم خلفه، ودخل عالم التنظيمات السرية، حيث أسّس مع آخرين “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية”، وهي مجموعة ماركسية مؤيدة للقضية الفلسطينية ومعادية للإمبريالية الغربية، تبنّت عدة عمليات استهدفت دبلوماسيين غربيين على الأراضي الأوروبية في مطلع الثمانينات.
استخدم عبدالله هويات متعددة للتنقل بين الدول الأوروبية، من الجزائر إلى مالطا والمغرب واليمن، لكن الفرنسيين لم يقتنعوا كثيراً بغطائه. أوقف في مدينة ليون الفرنسية عام 1984، عندما توجّه بنفسه إلى الشرطة مدّعيا تعرضه لملاحقة من قبل الموساد الإسرائيلي.
وبعد فترة وجيزة كُشف الغطاء عن هويته الحقيقية “عبدالقادر السعدي”، وتم ربطه بمخزن سري في باريس عُثر فيه على أسلحة وأجهزة اتصال.
وفي العام التالي حكم عليه بالسجن أربع سنوات، وفي عام 1987 صدر الحكم الأثقل: السجن مدى الحياة بتهمة التواطؤ في اغتيال دبلوماسيين أميركي وإسرائيلي ومحاولة اغتيال ثالث. "أنا مقاتل، ولست مجرما" هكذا ردّ عبدالله أمام المحكمة الخاصة التي نظرت في قضيته. لم يقدّم دفاعًا تقليديًا، بل خطابًا سياسيًا.
رفض التهم الجنائية، ولم يعترف سوى بانتمائه إلى قضية يعتبرها “قضية إنسانية قبل أن تكون سياسية.” وقال ذات مرة “الطريق الذي سلكته أملته عليّ انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد فلسطين.”
القاضي والمحامون والنيابة لم يسمعوا منه اعتذارًا. بل إن محامي الادعاء جورج كيجمان وصفه في مذكراته بأنه “أهان الجميع ووصفنا بالخنازير… وكان لا بد من طرده من القاعة،” قبل أن يعود لاحقًا ويقول “أكنّ له نوعا من الاحترام… إنه مفكر متزن، وإن بقي سجين قناعة متصلبة.”
ومنذ عام 1999 أصبح جورج إبراهيم عبدالله مؤهلاً للإفراج المشروط، لكن كل طلباته قوبلت بالرفض، باستثناء طلب واحد في 2013 مشروط بترحيله إلى لبنان. آنذاك رفض وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس التوقيع على الترحيل، لتبقى القضية في المجهول القانوني.
ولم يُظهر عبدالله أي رغبة في التنازل أو تقديم تعهدات. ظل متمسكا بخطابه السياسي، يقرأ، يراسل، ويتابع أخبار الشرق الأوسط. محاميه جان لوي شالانسيه قال عنه عام 2022 “هو في حالة فكرية جيدة… ما زال متمسكا بمواقفه.”
وخلال العقود الماضية تحوّل عبدالله إلى قضية رأي عام في الأوساط اليسارية الفرنسية والعربية. واعتُبر “السجين السياسي الأطول في أوروبا الغربية،” ووصفت قضيته بأنها “ملف يفضح ازدواجية العدالة الفرنسية.”
منحته بلديات شيوعية في فرنسا صفة “مواطن فخري”، وكتبت عنه الكاتبة أني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، واصفة إياه بأنه “ضحية قضاء الدولة الذي يلحق العار بفرنسا.”
وفي المقابل يرى منتقدو عبدالله أنه لم يُحاكم على أفكاره، بل على أفعاله، وأن الحكم بالسجن المؤبد جاء بعد عمليات دامية راح ضحيتها دبلوماسيون ومسؤولون، ويؤكدون أن “الندم شرط أساسي لأي إفراج.”
وفي 17 يوليو 2025 أصدرت محكمة فرنسية قرارًا جديدًا بالإفراج المشروط عن جورج إبراهيم عبدالله، مع شرط ترحيله. القرار لم يكن الأول من نوعه، لكنه جاء بعد تصاعد الضغوط الحقوقية والسياسية، خصوصاً بعد تغير المزاج السياسي في فرنسا وتراجع الحماسة الرسمية لاحتجاز عبدالله إلى ما لا نهاية.
ورغم الترحيب الواسع بالقرار في بيروت ودوائر اليسار الأوروبي، إلا أن الشكوك لا تزال تحيط بإمكانية تطبيقه فعليًا، خصوصًا في ظل تعقيدات الترحيل، والضغوط التي قد تمارسها الولايات المتحدة أو إسرائيل لمنع الإفراج التام عنه.
قضية جورج عبدالله لم تكن مجرد محاكمة جنائية. منذ لحظة اعتقاله، تعاملت معها السلطات الفرنسية كملف ذي حساسية سياسية وأمنية عالية، خصوصًا في ظل الضغط الأميركي والإسرائيلي الذي رافق المحاكمة.
وثائق دبلوماسية سُرّبت لاحقًا، أشارت إلى أن واشنطن مارست ضغوطًا مباشرة على باريس لعدم الإفراج عنه، حتى بعد استيفائه شروط إطلاق السراح المشروط منذ عام 1999.
كما أن شرط الترحيل الذي عُلّقت عليه جميع محاولات الإفراج، كان ولا يزال عائقًا سياسيا أكثر من كونه إجراء قانونيًا. ففرنسا رفضت تنفيذ الترحيل في أكثر من مناسبة، رغم عدم وجود مانع قانوني، ما اعتُبر رضوخًا لضغوط خارجية.
عبدالله لم يكن وحده في الساحة. في تلك المرحلة من التاريخ الأوروبي كانت التنظيمات اليسارية المسلحة حاضرة بقوة: الألوية الحمراء في إيطاليا، الجيش الأحمر الياباني، “بادر ماينهوف” في ألمانيا، وتنظيم “العمل المباشر” في فرنسا.
تقاطعت هذه الحركات مع نشاط الفصائل الفلسطينية، وتكوّنت شبكة تضامن تتجاوز الجغرافيا والأيديولوجيا، لكنها تشترك في معاداة الإمبريالية الغربية.
عبدالله لم يكن فقط ناشطًا في هذه الشبكة، بل أقام صلات مباشرة مع رموزها. اتُّهم بأنه على اتصال مع كارلوس الشهير، وبأنه نسّق لوجستيًا مع عناصر من “العمل المباشر” أثناء تنفيذ عمليات مسلحة.
منذ دخوله سجن “لانيميزان” في جنوب غرب فرنسا، تحوّلت الزنزانة إلى منبر سياسي. عبدالله يقرأ بكثافة، يتابع الصحف العربية والأجنبية، ويرد على الرسائل. لم ينخرط في مفاوضات أو طلبات عفو شخصية، بل بقي متمسكًا بخطاب مناهض للدولة الفرنسية وسياستها في الشرق الأوسط.
محاموه يؤكدون أنه لم تُعرض عليه أي “صفقة تخفيف” مقابل تنازلات، وأنه يرفض أي صيغة يُطلب فيها “إعلان ندم” أو “إدانة للعنف الثوري”. يقول عنه محاميه جان لوي شالانسيه “سجين من نوع خاص.. هو مثقف، ملتزم، وواعٍ بما يمثله رمزيًا. لم يعد مجرّد فرد معتقل، بل قضية.”
في لبنان ظلّت قضيته حاضرة، ولو بوتيرة متفاوتة. القوى الوطنية واليسارية تضعه في خانة “أسرى الصراع العربي-الإسرائيلي”، بينما ترى فيه بعض القوى الأخرى عبئًا سياسيًا أو تاريخيًا تجاوزه الزمن.
ومع ذلك فإن كل حكومة لبنانية تعاقبت منذ بداية الألفية كانت تضطر إلى التعاطي مع قضيته، سواء عبر بيانات رسمية أو من خلال رسائل إلى باريس تطالب بالإفراج عنه.
وفي بيئته الشعبية لا يزال يُنظر إليه بوصفه أحد آخر رموز “الزمن الثوري العربي”، زمن التحالفات الكبرى، والمنظمات العابرة للحدود، والمثقف الذي يقاتل من أجل قضية.
في بلد يعيش صراعات طائفية، يبدو عبدالله خارج هذه البنية تمامًا. رجلٌ ماركسي، مسيحي، ينتمي إلى قرية صغيرة شمالية، لكنه قاتل من أجل فلسطين، وصار وجهًا من وجوهها.
من معلم إلى مقاتل، ومن مقاتل إلى سجين، ومن سجين إلى رمز. جورج إبراهيم عبدالله ليس سيرة سهلة. تاريخه لا يُقرأ من زاوية واحدة، ولا يُمكن تبرئته أو إدانته دون النظر في السياق الذي خرج منه واختار أن يعيش فيه. أربعة عقود خلف القضبان لم تغيّر قناعاته. “أنا لست مجرمًا”، قالها بوضوح. ربما لهذا السبب لم تفتح له الزنازين. لكنه أيضًا لم ينكسر.