فكر حر
توفيق الباشا... مئة عام على ولادة «الساحر»

عبيدو باشا

الأربعاء 28 أيار 2025

الرواة سحرة، لا يخشون الأوقات اللاحقة لأنها في رواياتهم. توفيق الباشا، ساحر لأنه راوٍ موسيقي، يروي اللحظات بالموسيقى، بلا خشية، لأنه يعي أن الراوية غير ميالة إلى الخلف.
 
لا يروي في الموسيقى وحدها، لأن الباشا راوٍ في كل لحظة بكل أنواع الأداء. يروي بإدراك خرافي، من قدرته على الاستجابات حتى في أحلك الظروف. ساحر هو الراوي حين يرى في شروط نجاح الفهم الموسيقي الانطلاق من نقطة مركزية.
 
نقطته المركزية هي الشرق، من الموشح المحدث الأداء إلى الفانتازيا. لن يخطئ في قياس الأسباب، لا ردود الأفعال، لأن الأخيرة تبقى تخضع لتقلبات المزاج المتوافقة واللامتوافقة.
 
المزاج جزء من الطبيعة العفوية. ثمة طبائع عفوية، لا طبيعة واحدة في شخصية توفيق الباشا، ما يتطلب امتلاك فهم مسرحي في أشغاله الموسيقية. إنه يضع مؤلفاته في مدار الأداء.
 
ثم إنّ موضوعاته المطورة شديدة الاسترشاد بمعاييره أولاها الأناقة. توفيق الباشا ذو الأناقة الأشبه بالنشاط العلاجي، لا يخفض معدلات الأناقة لا لدوافع خفية، إذ إن الأناقة يقين من يقينيات سوف تؤدي إلى جوهر الموضوع. ذلك أن الأناقة واحدة من وحدات إنجاز الثقة في الذات وفي المؤلف الموسيقي. فولار لن يختفي بانقضاء الأوقات. فولارات للصيف، فولارات للشتاء. «بوشات» لن تضل الطريق إلى إنجاز جزء الأناقة الآخر.
 
المقدمة الغنائية لـ «الدنيا هيك»، الكوميديا الشعبية، اغتبطت بأناقة توفيق الباشا وهو يؤلفها بالمرح التدريجي. هذا المرح، هذا التدرج، التدريج، جزء من الأناقة. نظاراتان طبيتان مربعتان لا تبعدان عن العينين لكي لا تكشف العينين ما فيهما. سوف ينقضي الوقت في رصد الإشارات الأنيقة في مشيه في شوارع القاهرة ذات عام، حين وجدت نفسي على استعداد للانتظار حتى يتحوج ما أراد تحوجه من بوتيكات القاهرة الفخمة.
 
لو أنني أردت إنجاز الأمر من دونه لضللت الطريق. لكنها الصلة الصامتة. الصلة الصامتة بالأشياء، الصلة الصامتة بالأشخاص، الشخصيات، الموسيقى. هذا جزء من أجزائه الطيبة. جزء من أجزائه الشاقة. ثمة شيء يتدافع من أعماقه دوماً. ثمة، تدافع روحي. ثمة تدافع نطقي تتخلله فراغات بين كلمة وكلمة في أحيان وبين جملة وجملة في أحيان.
 
يلعب الفهم دوره في تقييم المعايير. الباشا معياري من إدراكه المعاني الأعمق للأشياء. قوة حجته في أجزاء اللغة. لأن اللغة لدى الباشا المستربعاني الجسد لا تقوم على تعاطي الفوريات، حين تقوم على الانتقالات، من الضرورة إلى الاستمرار والتقدم والتطور والتقويم والاتجاهية. دائماً ما قادته اتجاهيته إلى أكثر ما يحتاج جمهوره أن يعرفه.
 
شخصية كمسرحية لا تتوقف عن التطور ولا عن إعلاء الدهشة في اللغة المؤلفة من الحدث والإيماءة واللهجة والحركة. مسرحي في الموسيقى موسيقي في المسرح.
 
ذلك أنه اشتغل في المجالين. مسز كوك الأميركية لم تبذل قصارى الجهد لكي تبعده عن ذاته. لم تسع إلى ارضاء نزوة عابرة.
 
لذا وجد في الشراكة معها ما يبدو له أهمية. لذا، اشتغلا «الإنشادية النبوية»، مؤشر على ما يدور في مشروعه الروائي. الرواة سحرة. واحد من سحرة الشرق، من تألق سحر الرواية فيه من سكينة منبعثة من داخله. سكينة تقود إلى الانغماس بكل شيء بالثقة.
 
ثقة قادت أعماله المركبة على القناعة والتتابع جنباً إلى جنب بعيداً من البيانات. لا معلم له، ولو علمه معلمون ما قاده إلى جمالات تأخذ بالألباب. لا زكي ناصيف ولا الكسي كوغل الروسي الأبيض ولا روبيار.
 
معلمه خاله خليل مكنية. الموسيقي والرسام، من قاد الأخوين إلى وحي اللحظات الأولى في الرسم والموسيقى. أمين إلى الموسيقى وتوفيق إلى الرسم. كلام لا علاقة له بوجه التقريب.
 
هكذا، كلام توفيق الباشا. لكن ثمة ما حدث. ثمة ما تعقب الأخوين حتى منح الواحد منهما ما بين الجيد الأتلع لشخصيتين بدا العالم الثقافي مختلفاً مذ التزم كل بجانبه.
 
حدث شيء ولو أنكره بعضهم. لا تواطؤ. ثمة ما قاد. قياد ارتياد حرير في الرسم والموسيقى. انغماس في الأمرين حقاً. انغماس لا إفراط من رجلي مهمة واحدة في اختصاصين طوعيين. اختصاصا مادة لا ماديات. ظهر كل متلق بإحساسه، ما جعل الرجلين توأمين ولو أنهما ولدا في زمنين مختلفين. في الأيام الأخيرة، وقفت مشاعر الباشا على ما هو منوط بالاهتمام. مؤلفاته ورسوم أمين. قالها لي بإيماءة احتفالية.
 
إذ إنه لم يتوقف عن الاختباء في أعماله ولا في المضي بها قدماً. لن يخفي أثر الباشا لا رجل ولا ناقد ولا علامة. توفيق علامة في الموسيقى. ميزولوغ. لا على التعلميات ولا على مواد الكراسات، على ما تركته الموسيقى في نفسه. وما تركته الحياة في موسيقاه. لا أحسب في هذا المجال أنّ الإتيان على ذكر الأعمال وحدها من دون رؤاها. طراز حديث على ترتيبات بأعلى الأقدار. البيوغرافيا ظالمة، مظلمة. ولد.
 
بعدها، عَلِم. ثم، علَّم. ثم، أنتج. هذه معلومات تقود إلى خيبات الأمل من عدم الرغبة بالقراءة العميقة. سعي إلى تأجيل ما يقدم وعوداً لا عناوين لأن الوعود في العناوين. لا علاقة للأخيرة بالضمائر الإبداعية. إنها خداعة، بالأخص ممن لا يمتلك الشجاعة الكافية للقفز فوق هذا النوع من الإتلاف. البيوغرافيا إتلاف. لا تحدث ولا تواصل الحديث. شيء من غوغل. شيء من حوار مع جثة من كسالى الوقت ومن يتعذر عليهم أن يقرأوا الأمور على نحوها.
 
عبور إلى إذاعة الشرق الأدنى، الإذاعة اللبنانية. لا علاقة للأمر بصندوقه السحري. ذلك أن الباشا صوفي، لا يمكنه الوجود إلا في مواضع لا يراها كثيرون لأنها مواضع العمق العائلي، رفع وجهه نحو السماء الشتائية الضاربة إلى القتام وروى على صوت كحات الوالدة في حجرة غربت شمسها وهي لا تبتعد سوى بوصات عن ثلج لم يتراكم على الروح.
 
الوالدة في موضع وهو في موضع. إنهما في موضع واحد. لم يطرف وهي تهمي على وجهه بأوجاعها. رد على أم كلثوم بمقالات، حين شرعت بالقول إن البشارف والتحاميل تركية. لم يتوقف أبداً عن تصحيح الأوضاع لأن الباشا لا يتعلق بالصدف، لأنه يجدها قبوراً مفتوحة. ساجل الست بعدما بلغ صوتها مداه، بعيداً من كسر الخواطر.
 
هذا شأن لا يسكت عليه، ولو انتمت السيدة إلى عالم الكبار. كبير يدفع الكبيرة إلى تلقي الأمر بالجدية والروح الطيبة. حين وجد في مهرجانات بعلبك في دورتها الأولى، وجد على الموسيقى والمسرح ممارسات لاستخدام النوت الموسيقية والنصوص المساعدة في دراسة الأشكال المسرحية الغنائية واسعة النطاق.
 
عودة إلى مارون النقاش وابي خليل القباني مع الرئيس كميل شمعون والسيدة زلفا زوجته. يا بنيشنكم يا بنيشكم، قال. إلا أن اللوحات والمباني في عام المهرجان الأول، لم تتمتع بالعام التالي بالفنانين المميزين.
 
خمسة كبار في مهرجانات بعلبك. الأخوان رحباني، زكي ناصيف، توفيق الباشا. أربعة. ينقص واحداً. جيء بتوفيق سكر ما أكّد توافق المجموعة ومجموعة الخمسة الكبار في الاتحاد السوفياتي. تم وجود الأخير مع التطور الفوري لأعمال الأربعة. لا يتهم الواسع النطاق ذهنياً أحداً في عدم وجود من وجد في الدورة الأولى في الدورة الأخرى. دافئ لسان. حدثني زكي ناصيف قال، إن وراء عزل الثلاثي رجوع الأخوين رحباني إلى الرئيس شمعون. نحن فقط، قالا له. أو نمضي. قال ناصيف أكثر.
 
لا يجد توفيق الباشا مثالية في السرديات. حتى ولو وجد لها الخلفيات الملائمة. ما حدث حدث. نقطة على سطر الكلام. محب السيد درويش والموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرق أقصوية، أنتج من الأنواع المختلفة ما يراه العالم علاوة في الفنون.
 
سعيد بسمفونية بيروت، واحدة من نماذجه البارزة في تحقيق خصائص عوامل علاقة البيروتي ببيروت. سعيد بأن تلعبها الأوركسترا البلجيكية. سعيد بأدواره في المعهد العالي للموسيقى في نقابة الموسيقيين ونقابة الفنانين المحترفين. منهجه في حل المشكلات عبر الإلحاح.
 
سعيد بحياة منقوشة على الأحجار والأرواح والأشجار. سعيد بالمشاعر الوطنية. سعيد بقوميّته، حتى إنه رفض توظيف أحد الأقرباء في الإذاعة لأنه شيوعي. سعيد بقيادة الأوركسترا لفيروز.
 
لكنه الأسعد بامتداد حياته إلى الثمانين. اليوم، يدرك العالم أنه مضى على مضيّه إلى وادي النوم عشرين عاماً، وأنها ذكرى ولادته المئة، بقي خلالها قادراً على الاحتمال، بحيث دفع من لم يقدر مقداره على استجماع الأطراف في شجاعة تأتت من الرجل الشجاع نفسه: توفيق الباشا.
 
 
المصدر: الأخبار