مئوية الأب يواكيم مبارك...الاستثنائي في الفلسفة واللاهوت والحوار والحضارة
سليمان بختي
الأربعاء 6 آذار 2024
وصفه الدكتور جورج قرم بـ"الإنسان الاستثنائي" وهو كان كذلك في حقول ومجالات عديدة. إنه الأب يواكيم مبارك، نستعيده في ذكرى مئوية ولادته (1924 – 1995). فيلسوف ولاهوتي وأستاذ في المعهد الكاثوليكي في جامعة السوربون ورجل حوار. كتب الكثير في التراث المسيحي والإسلامي. ودعا إلى حوار "مسيحي - إسلامي" وإلى حوار "مسيحي – مسيحي"، وإلى حوار مع الذات ودافع عن القضايا العربية وخصوصاً عن القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية. وفي ذلك كله، كان باحثاً صادقاً عن دور لبنان ومسيحييه في هذا الشرق والرمز أنطاكية باعتبارها الجامع للكنائس في هذا الشرق.
ولد يواكيم مبارك في 20 تموز 1924، في بلدة كفرصغاب شمالي لبنان لعائلة مارونية عريقة بخدماتها للكنيسة. أكمل علومه في إكليريكية غزير وفي الجامعة اليسوعية. أُوفد من قبل رؤسائه الى فرنسا لإتمام تحصيله الجامعي (1945) ولما أنهى دراسته في اكليريكية سان سولبيس في باريس عاد إلى لبنان كاهناً في 29 حزيران 1947. ونظراً لتفوقه، سمح له البطريرك الماروني بالعودة إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا في الجامعة الكاثوليكية في باريس. كما عين خادماً لكنيسة سان سيفرين في الحي اللاتيني في باريس وبقي فيها 18 سنة. في العام 1951، قدم مبارك اطروحته لنيل الدكتوراه وموضوعها "ابراهيم في القرآن". والتحق باحثاً في المركز الوطني للبحوث الفرنسية. ومن 1952 حتى 1962 كان أمين السر للمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون. في العام 1959 دشّن رحلته التعليمية كأستاذ للغة العربية في الجامعة الكاثوليكية في باريس، واستمرّ في التدريس في جامعات عريقة مثل جامعة لوفان البلجيكية وجامعة السوربون في باريس وغيرها. وبقي التعليم أثيراً على قلبه واستمر فيه حتى وفاته. بين 1962 و1965، شارك مبارك في أعمال المجمع المسكوني الثاني في الفاتيكان ضمن الوفد اللبناني. وبعد 1965 كرّس جهوده لأجل الحِوَار بين الأديان والدفاع عن القضايا اللبنانية والعربية. في العام 1985 انكب في دراساته وبحوثه على إعادة اكتشاف الجذور السريانية للكنيسة المارونية.
وبين 1987 و1992 عاد إلى لبنان وكلف التحضير للمجمع الماروني. وفي تلك الفترة أطلق مشروعين:
1. إعادة اعمار دير السيدة مريم في قنوبين. الذي كان المركز البطريركي من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر.
2. في العام 1992 أطلق ما سمّاه التعاونية اللبنانية للتطوير وهدفها تأمين القروض لتشجيع النازحين خلال الحرب اللبنانية للعودة إلى قراهم واعمارها. وفي نهاية 1992 عاد إلى باريس منصرفاً الى عمله الاكاديمي.
ترك الأب مبارك العديد من البحوث والمؤلفات بالعربية والفرنسية نذكر منها: "الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان" و"القدس القضية" و"الخماسية الانطاكية: أبعاد مارونية" و"حديقة الشرق السريانية الصوفية" و"ولادة الفلسفة الإسلامية" و"تاريخ الدول الإسلامية" و"الموارنة في الحاضر" و"اعمال المؤلف لويس ماسينيون" و"الرغبة والرسالة" و"المسيحية الروسية". "الاسلام" وقدم له الشيخ صبحي الصالح.
أتقن الأب مبارك لغات عديدة، فإلى جانب العربية، أتقن الفرنسية والإنكليزية واليونانية واللاتينية والسريانية. كما عمل معاوناً للمستشرق الفرنسي هنري لاوست في مختبر التاريخ المقارن للشرق الإسلامي. وترأس تحرير عدد من الدوريات مثل مجلة "الدراسات الإسلامية" و"المقاومة المسيحية الإسلامية" و"ليبنانيكا". آمن الأب مبارك بأن الفكر واللاهوت المسيحيين نابعان من أرضنا. وان المارونية حالة نسكية ومتألقة في الشرق. وانتهج الخط الانفتاحي الحواري الذي يريد اعادة تجذير الموارنة في الشرق.
يقول: "إن الموارنة جاؤوا إلى لبنان مرسلين وليسوا لاجئين". واعتبر أنّ المارونية أنطاكية اكثر منها رومانية. اضطلع مبارك في زمن الحرب بدور توفيقي حواري وعمل لأجل تقريب وجهات النظر بين الفئات المتقاتلة مستنداً في ذلك الى صداقته مع كمال جنبلاط وموسى الصدر. وكان يرى أن لبنان، يكون متعدداً أو لا يكون. لم يعف الأب مبارك اللبنانيين من مسؤوليتهم في الحرب، لكنه اعتبر أن لإسرائيل اليد الطولى فيها أيضاً، فقد كانت تدمر الوجود الفلسطيني وتدمر لبنان وصيغته التعددية. ورأى أن لبنان هو العدو الأخطر لإسرائيل لما يمثله من نموذج حضاري تعددي، على عكس عنصرية إسرائيل وضدها. وفي وصيته قال: "إن لبنان يجب أن يبقى ترياقاً ضد كل دولة تدعي لنفسها حرمة القداسة وتنسب ذاتها الى إرادة إلهية".
في العام 1970 كتب الأب مبارك نصاً مميزاً بعنوان "المسلمون والمسيحيون واليهود على المحك الفلسطيني". وقال فيه "إن الخطر الذي يتهدّد لبنان هو في المواجهة بين ثلاث قوى معادية حتى الموت ولكن متحالفة بطبيعتها الأيديولوجية". درس الأب مبارك الإسلام كدين وحضارة بعمق ومعرفة واسعة. ويروي المطران جورج خضر في مقالة نشرها في صحيفة "النهار" (5 ايلول 2009): "ذهلت مرة وأنا في مجموعة من مسيحيين ومسلمين في جنيف ودعوناه إماماً لصلاتنا وظننت أنه سيتلو لنا فصلاً من الإنجيل. ذهلت لأنه أخذ يقرأ علينا "سورة الرحمن" اذ لا يزال يطن في أذني "فبأي آلاء ربكما تكذبان". لاحظت أن الفريق المسلم ارتضى تلاوة قرآنية من كاهن مسيحي في لقاء مشترك". ويضيف خضر: "القلب عنده كان الأهم، فمن وراء الإسلام كان يقصد العائلة الإبراهيمية كلها كما سمّاها ماسينيون... حاضرنا معاً في أمسية واحدة في باريس. كان عربي الاندفاع من حيث انه كان ضدّ الاستعمار وأراد للبنان تبنياً صادقاً للعالم العربي... ما كان عنده حرج من اختلاط ما بين العروبة والإسلام. ولو شئت ان أبالغ قليلا لقلتُ أنه كان يرتاح في الإسلام"... "أظن أنه كان يحب في خلوته ان تتمازج العربية والسريانية كما كان يريد ألا يهمل الأرثوذوكسيون اليونانية. ما كان يريد أن تفنى اللغات القديمة عند المسيحيين في العربية. القديم كثيراً ما يحييك. أظن أن البطريرك بولس مسعد الماروني في الشقة التي يسكنها في استانبول، سمع من الطابق العلوي من يرتل بالسريانية فعلم بعد استقصاء أنّه كان أحمد فارس الشدياق".
توفي الأب مبارك في 24 أيار 1995 في مونبلييه في فرنسا، ودفن في مدفن السيدة العذراء قرب باريس. ونقلت رفاته إلى كنيسة القديس يوسف في مرح كفرصغاب في 25 آب 2009 ليرقد على كتف وادي القديسين ويشهد مع تراب هذا الشرق على روحانية المارونية المشرقية وانفتاحها وبهائها ولو تبدّلت الأحوال والأزمان.
المصدر: المدن