فكر حر
وائل الدحدوح.. وجه غزة ومرآتها

عماد عنان

الأربعاء 10 كانون الثاني 2024

“نشهد يارب أن ولدي بكري حمزة كان من البارين، وكان شهمًا، كان كريمًا معطاءً، كان حنونًا، هذا هو قدرنا وهذا خيارنا، وهذه هي حياتنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا الفانية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لله وإنا إليه راجعون”.. بتلك الكلمات رثى الإعلامي الفلسطيني مراسل قناة “الجزيرة” وائل الدحدوح نجله البكر (حمزة) الذي ارتقى إثر استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي بطائرة مسيرة للسيارة التي كان يقلها وزميل له.
 
ما أقسى تلك اللحظات التي يقف فيها الأب ناعيًا ولده المسجى جسده على الأرض، لحظات تحتاج إلى جبال من الصبر والصمود والجلد، ثوانٍ تمر كأنها سنوات وأعمار، كلمات تتدحرج على اللسان كالحجارة الثقال تأبى التزحزح، لكن الدحدوح كعادته كان على الموعد، ضاربًا بكل معاني التحمل عرض الحائط، ليقدم معادلة جديدة ومفردات مختلفة تمامًا في الصبر والصمود والثبات، فاستحق أن يكون منارة لكل فلسطيني يحمل هم قضيته ويضحي لأجلها بالغالي والنفيس، ويدفع ثمنها غاليًا ولو كان فلذة كبده وروح روحه.
 
إن كان الدحدوح تعبيرًا عن المشهد الغزي، وعنوانًا أكبر لصمود أهل القطاع، فإنه في الوقت ذاته حالة استثنائية في كل شيء، فما تعرض له في غضون أقل من شهرين ونصف كفيلًا بأن يرقده في فراشه، أو يدفعه للهروب ولملمة شعث نفسه وجمع ما تشظى من ذاته، لكن صموده ولغته الهادئة الرصينة، وثباته الخارق للطبيعة البشرية، جعل منه أيقونة في الداخل الفلسطيني وخارجه.
 
ويثبت الدحدوح بين الحين والآخر أن إيمانه بالرسالة التي يقوم بها، ودفاعه عن قضيته الوطنية والإنسانية، أبقى عمرًا، وأنقى سيرة، وأطول حياة، من آلة القتل الإجرامية الإسرائيلية، وأن محاولات إسكات الصوت والكلمة والصورة بالاغتيالات والاستهدافات والتنكيل لن تزيده إلا قوة وثباتًا وإصرارًا، ليقدم هو وزملاؤه ملحمة عظيمة في الإباء والكرامة ودروسًا قوية في الوطنية والكفاح.
 
حالة استثنائية بكل المقاييس
 
 
قبيل الساعة الثامنة بتوقيت فلسطين مساء 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبينما كان وائل يغطي تطورات المشهد الميداني في غزة، تلقى مكالمة هاتفية على الهواء مباشرة تفيد بتعرض المنزل الذي نزحت له أسرته في مخيم النصيرات لقصف إسرائيلي.
 
انسحب الدحدوح بغريزته الأبوية من البث، وهرع لمكان القصف، ليجد المنزل والذي بجواره ركامًا فوق الأرض، وهنا كانت الكارثة، فمن بين الضحايا كانت زوجته وابنته شام (7 سنوات) وابنه محمود (طالب في المدرسة الثانوية) وحفيده.
 
في لحظات فقد وائل رفيقة العمر التي تحملت معه سنوات الشقاء والمعاناة، وقاسمته لحظات الفرح والسعادة والسرور، وآزرته في مهمته، ودعمته في أحلك لحظات الحياة، ومعها ذهبت ابنته شام، أم أبيها، وابنه محمود، فلذة الكبد وبسمته المرسومة فوق شفاهه رغم الألم.
 
“بينتقموا منا في الأولاد”.. كان هذا تعليق الدحدوح على تلك المصيبة التي توقع الكثيرون أنها ستكون القاصمة، فمن ذا الذي يتحمل هذا الألم في هذا الوقت الحساس الذي تشابهت فيه الحياة والموت، ويقف كل فرد في الطابور انتظارًا لدوره في الشهادة.
 
وبينما كانوا يراهنون على خلع وائل لردائه الصحفي وأن يلقي بالميكروفون من يده، حفاظًا على ما تبقى من أفراد عائلته، إذ بالأمر لم يستغرق أكثر من دقائق معدودة، ليخرج المراسل بكامل هيئته معلنًا معاودة العمل ومواصلة أدائه للرسالة، في مشهد أحدث ثقوبًا غائرة في جدار المشاعر الإنسانية.
 
أي قوة تلك التي تدفع الأب والزوج بعد أن دفن أحبابه وصلي عليهم، أن يعود مسرعًا إلى معركته وساحة النضال، ليكمل الرسالة ويواصل دفاعه عن القضية التي احتلته من منبت الشعر حتى أخمص القدم؟
 
منطقيًا، توقع البعض أن ينأى وائل بنجله الأكبر البكري “حمزة” عن المشهد قليلًا، وأن يوفر له سبل الحماية بمغادرة القطاع والبحث عن مكان آمن له، حتى لا يتعرض لنفس المصير، لكن الأمر تجاوز المنطق، إذ أصر الأب والابن معًا على مواصلة المشوار، وبدلًا من إبعاد حمزة أو على الأقل نقله لمكان أكثر هدوءًا كـ”رام الله والضفة”، وجده معه في قلب معمعة الحرب بخان يونس التي تشهد أشرس المعارك في القطاع.
 
ويومًا تلو الآخر تشتد المواجهات، ويقترب الموت أكثر وأكثر من الوالد ونجله، فيما تتعالى الأصوات التي تطالبهما بالمغادرة فكفاهما ما قدما من تضحيات حفاظًا على استمرار بقاء العائلة، لكن الإيمان بالرسالة كان أقوى من الخوف البشري، ليكملا ما بدآه، حتى يفجع الأب باستهداف بكره في قصف لطائرة مسيرة، بينهما كان ذاهبًا لأداء عمله صبيحة الأحد 7 يناير/كانون الثاني الحاليّ.
 
وقف وائل أمام جثمان ولده المسجى، يداعب أصابعه بأنامل الأمل، يقترب منه ويدني قميصه إلى وجهه لعله يشم رائحته فيرتد حيًا، أو يشعر بفؤاده الذي انفطر حزنًا وكمدًا عليه فيستيقظ من سباته العميق، أو ربما كان ينتظر الأب معجزة السماء في أن يكون حمزة حيًا لكنه كُفن بالخطأ، وأن الأمر لا يعدو غيبوبة جراء الصدمة لا تستغرق بضع دقائق.
 
في تلك الأثناء كان الأمل يطبطب على الأب كما يواسي زوجة الابن التي انفجر بكاؤها وزاغت أبصارها وهي تترقب ملامح وائل الصامد الثابت وتتشبث في تلابيبه لعلها تجد فيها ما يفرح قلبها بأن حمزة لم يمت، وأن ما تراه ليس سوى كابوس سرعان ما يستفاق منه.
 
لم يدم الأمر وقتًا طويلًا حتى استقر في يقين الوالد المكلوم أن الأمر قد حُسم، وأن روح الروح فارقت الجسد، وأن قلبه غادر قفص صدره لمرافقة ابنه وصديقه ورفيق دربه في العمل والبيت، ليترجل على أصابع من فولاذ للصلاة على ولده، ثم يواريه التراب، قائلًا: “حمزة ليس بضعة مني حمزة كان كلي، روح الروح وكل شيء”.
 
هذه المرة الأمر مختلف، فهي القاضية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كان هذا هو الشعور الأولي الذي انتاب الجميع عقب حدوث الجريمة، فليس هناك أصعب من فقدان الابن البكر، لكن الدحدوح كالعادة يضرب بكل المعاني التقليدية عرض الحائط، ويصيغ قاموسًا جديدًا من مفردات البطولة ومعاني الصمود وعبارات القوة.
 
وبعد ساعات قليلة خرج وائل في بث مباشر على قناة “الجزيرة” معلنًا عودته بعد أن اطمأن أن ولده بات في مكان أكثر أمانًا وعدلًا مما كان عليه، ولم يعد هناك خوف ولا قلق بشأنه، فهو بين يدي الملك الذي لا يظلم عنده أحد، ولا يُخذل عنده صاحب حق مهما كان ضعيفًا.
 
خرج الدحدوح ليؤكد أن الرسالة باقية ما بقي على قيد الحياة، وأن مسيرته في فضح الاحتلال وجرائمه الوحشية أمام العالم لن تتوقف مهما كان الثمن، وأن قدره في هذه الأرض أن يكون استثنائيًا في كل شيء، في الحزن والألم، في الصمود والتحدي، في التضحية والفداء.
 
الوجه الآخر لغزة
 
 
يمثل الدحدوح الوجه الآخر لغزة، فهو يشبهها في كل شيء، شكلًا ومضمونًا، فتجاعيد الوجع المشكلة على خريطة وجهه تتطابق مع أجواء الألم والحزن التي تخيم على القطاع بين الحين والآخر، ذلك القطاع الذي لم يكد يهنأ بهدوء ولو مؤقت حتى تشتعل ساحاته لتُخضب ترابه بدماء الأحرار والأنقياء من الأطفال والنساء والشيوخ.
 
كما أن ما تعرض له وائل من صدمات وكوارث أخرجت فؤاده من مكانه، وزلزلت أركانه يمينًا ويسارًا، في حقيقتها امتداد لتلك التي تعرض لها قطاع غزة وسكانه على أيدي قوات الاحتلال الغاشمة، التي طالما تبحث عن انتصاراتها الزائفة على جثث وأشلاء المدنيين من المستضعفين الأبرياء.
 
وكما عبر الدحدوح آلامه، وقفز على أناته، وصمد رغم الألم والفجع والجراح والحزن، وواصل الرسالة وأداء المهمة المقدسة، ها هي غزة كذلك، متجاوزة كل ما تعرضت له، صامدة شامخة في وجه المحتل وأعوانه، رغم الفوارق الكبيرة في العتاد والعدة، تأبى إلا أن تقاوم حتى النصر أو الشهادة.
 
نظرة واحدة في وجه الدحدوح بكل ما فيه من تعرجات الزمن كفيلة أن ترسم لك بعضًا من ملامح غزة، وقراءة سطر واحد فقط في مجلد صموده وكبريائه، كاف للوقوف على مسيرة نضال القطاع عن بكرة أبيه في معركة التحرير الكامل ودحر الاحتلال والتحرر من الاستعمار، داخله وخارجه، لذا فكلاهما وجهان لعملة واحدة، عملة الكرامة والإباء والنضال والصمود.
 
يثبت الدحدوح يومًا بعد يوم أن محاولات الاحتلال البائسة في التعتيم على الجرائم المرتكبة في غزة عبر استهداف الصحفيين وعوائلهم (109 صحفيين استشهدوا في القطاع منذ بداية الحرب) لن تحقق أهدافها، فلن يُقصف قلم، ولن يُكسر ميكروفون، ولن تُطفأ كاميرا، ولن يُخرس لسان.
 
فالثبات الذي عليه وائل رغم الفواجع التي تعرض لها، يضعنا ومواقفنا على المحك، فمن ذا الذي يتململ من مشقات عمله وأمام عينيه هذا الجبل الأشم يودع أحبته المرة تلو المرة ويعود إلى عمله بنفس نبرته ونفس عطائه، ومن ذا الذي يتخلى عن رسالته أمام هذا النموذج المفعم بالتحدي والكبرياء، ومن هذا الذي يشعر بالضعف والوهن وهو يرى الدحدوح ثابت في الميدان.
 
أخيرًا.. ليس هناك أفضل مما قاله الإعلامي بقناة “الجزيرة” عثمان آي فرح ناعيًا الدحدوح قائلًا: “ماذا يمكن لأي إنسان أن يقول لأبي حمزة البطل وائل الدحدوح؟ الله سبحانه و تعالى فقط يمكنه أن يجزيك عن صبرك أخانا الحبيب.. أما بالنسبة لنا.. فأنت أسطورتنا ومصدر فخرنا.. وأنت ملهم للملايين.. يستمدون منك القوة.. ويدعون لك في صلواتهم.. الله يرحم الشهيد البطل حمزة وائل الدحدوح وكل الشهداء ويلهمكم الصبر”.
 
 
المصدر: نون بوست