أحداث ثقافية أخرى
بعد مرور نصف قرن على صدور «بيروت 75»،‏ ما تزال رواية غادة السمان مرآةً نبوئية لخراب المدينة واحتضار أحلام أبنائها.
سلوى دبوق
الثلاثاء 21 تشرين الأول 2025

بعد مرور نصف قرن على صدور «بيروت 75»،‏ ما تزال رواية غادة السمان مرآةً نبوئية لخراب المدينة واحتضار أحلام أبنائها. كتبتها في 15 يوماً كأنها تسابق القدر، فاستبقت الحرب الأهلية اللبنانية بشخصياتٍ مكسورة وأحلامٍ مسحوقة، كشفت عبرها بيروت كمدينة تغوي بالحرية لكنها تلتهم الحالمين
 
يُصادف هذا العام مرور خمسين عاماً على صدور رواية «بيروت 75» للروائية السورية غادة السّمان، التي أنجزتها خلال 15 يوماً فقط. كأنها كانت تسابق الزمن لتدوين نبوءة مرعبة. وما هي إلا أشهر قليلة حتى اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، لتتحوّل كلماتها من متخيّل أدبي إلى واقع دموي يلتهم المدينة وسكّانها.
 
قالت السّمان في أحد حواراتها عن خلفية الرواية: «قبل أن أكتب «بيروت 75»،‏ جلت في المناطق اللبنانية كلها، حيث الفقر والمعاناة… زرت مستشفيات المجانين والسجون، وعايشت معذّبي المجتمع، وركبت القوارب مع الصيادين ليلاً». من تلك التجربة العميقة خرجت النبوءة التي دوّت على لسان العرّافة في الرواية: «أرى كثيراً من الدم». وهكذا، تحوّلت «بيروت 75» إلى عملٍ استثنائي، سبق الحرب بحدسه، وقرأ الخراب القادم قبل أن تشتعل شرارته.
 
لمحة عن الرواية وشخصياتها
تبدأ رواية «بيروت 75» بمشهد رمزي كثيف الدلالة: سيارة تاكسي تنطلق من دمشق نحو بيروت، تقلّ خمس شخصيات مختلفة تتقاطع أحلامها عند عتبة المدينة التي تراها كلٌّ منها فضاءً للخلاص والتحرّر من ماضٍ مُثقل بالخذلان. غير أنّ غادة السّمان سرعان ما تنزع القناع عن وجه بيروت المزدوج، فتكشف عن مدينة تغوي بوعود الثروة والشهرة والحرية، لكنها في الوقت ذاته تنهش الحالمين وتحيل طموحاتهم إلى رماد وكوابيس.
 
تتشكّل الرواية من خمس حكايات تتوازى وتتقاطع، يجمعها خيط واحد: الهروب من القهر والبحث عن الخلاص.
فرح، الشاب القروي الساذج، يغادر قريته ساعياً إلى المجد الفني ليصبح مطرباً، لكنه يقع فريسة الوهم حين يبيع نفسه وكرامته لقريبه الثري نيشان، فيتحوّل حلمه إلى جنون وضياع. أما ياسمينة، المُدرّسة الدمشقية الحالمة بالحرية والمجد، فتقع ضحية لعلاقة عبثية مع نمر السكيني، الشاب الثري، الذي يستغلها ثم يرميها بلا رحمة. وفي النهاية، تُقتل بيد أخيها باسم «الشرف»، لتتحول إلى ضحية مزدوجة: ضحية الرجل وضحية المجتمع.
 
في المقابل، أبو مصطفى، الصياد الفقير ذو اليد المشوهة، يمضي ثلاثين عاماً يحلم بالعثور على مصباح سحري يُبدّل قدره، لكنه ينتهي بتفجير نفسه بالديناميت، في مشهد كثيف الرمزية يلخّص قهر الفقراء واستحالة نجاتهم.
 
أما أبو الملا، حارس الآثار، فيسرق تمثالاً أثرياً لينقذ أسرته من الفقر. غير أن قلبه يتوقف قبل أن يُحقّق حلمه، فيموت كما عاش، مُثقلاً بالعجز والخذلان. وأخيراً هناك طعّان، الصيدلاني الهارب من ثأر عشائري يكتشف أنّ مقاومة القدر وهم آخر، وأنّ بيروت التي قصدها للنجاة ليست سوى فخّ جديد.
 
تلتقي هذه المصائر لتُكوّن صورة بانورامية لمدينة تتحوّل إلى مرآة للخراب الداخلي، حيث تتجلّى قسوة الصراع الطبقي وتُسحق أحلام البسطاء تحت عجلات الطمع والفساد. تبلغ رمزية الرواية ذروتها في مشهد نمر وهو يرمي زجاجة العطر الفارغة في سلة المهملات بعدما استغل ياسمينة؛ لحظة تختصر مأساة الجميع: في بيروت، الإنسان سلعة تُستهلك وتُرمى، والمدينة آلة طحن كبرى تُحوّل الحلم إلى رماد. يتميّز أسلوب غادة السّمان في الرواية بخصائص فنيّة بارزة تمنحه قوة صادمة وكثافة لافتة. تعتمد الكاتبة على الجمل القصيرة المشحونة بالدلالات، لا بهدف الوصف فقط، بل للتكثيف والتفجير المعنوي.
 
لغتها فصيحة ورصينة، لكنها في الوقت نفسه متمرّدة على التقاليد الجامدة، إذ توظّف مفردات جريئة وواضحة لاقتحام المناطق المسكوت عنها، كالجنس والسياسة، وتعرية الواقع الاجتماعي والطبقي بحدةٍ. كما تبرز براعتها في توظيف الحوار المونولوج الداخلي والسرد العميق الذي يكشف أعماق الشخصيات وتناقضاتها، مستعينةً في ذلك براوٍ يمتلك رؤية شاملة للأحداث ومشاعر الأبطال.
 
الصراع الطبقي والسياسي
المدينة في رواية «بيروت 75» ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كيان حيّ يعكس الشرخ الاجتماعي والسياسي الذي يمزّق لبنان. تتجلّى بيروت كمرآة للطبقات المتناحرة: طبقة ثرية متخمة بالمال والنفوذ تستغل الفقراء والمهمّشين، فيما يرزح البسطاء تحت ثقل القهر واليأس. المال يتحوّل إلى معبود جديد، والسلطة إلى لعنة تفسد الروح قبل الجسد.
 
في خلفية هذا المشهد، تُخيّم التوترات السياسية والعسكرية التي تُلقي بظلالها الثقيلة على حياة الناس. تستحضر ياسمينة مشهد الغارات الإسرائيلية عند سماعها جدار الصوت، قائلةً: «كانت طائراتهم تمطر موتاً فوق دمشق منذ أقل من عام»، فيما تكشف الحوارات بين الشخصيات الانقسام اللبناني الحاد حول الفدائيين. أحدهم يقول بهدوء: «إنهم لا يفعلون شيئاً ولا يؤذوننا... يريدون إرهاب الفدائيين فقط»، فيردّ آخر بغضب: «تسميهم فدائيين؟ إنهم سبب خراب القرية!».
 
هذا التبادل القصير يلخّص عمق الانقسام: بين من يرى في الفدائيين رموزاً للمقاومة، ومن يعتبرهم سبب الدمار. الخلاف هنا لا يقف عند حدود السياسة، بل يتحوّل إلى صراع وجودي يُمزّق المجتمع ويقرّبه من لحظة الانفجار. تلتقط غادة السمان هذه التصدّعات بدقة جارحة، كمن ترسم ملامح زلزال قادم.
 
تتسلّل رموز الموت والدمار إلى كل زاوية في النص: نسوة محجّبات ينتحبن ويتعالى نواحهن في السيارة، وفرح يردّد كلمات دانتي: «يا من تدخل إلى هنا، تخلَّ عن أي أمل». حتى القمر يبدو ملوّثاً بالدم «رغيفاً أحمر يطلّ من سماء مثقلة»، في إشارة إلى الكارثة الوشيكة.
وفي المشهد الأخير، تبلغ الرمزية ذروتها: يهرب فرح من مستشفى المجانين، ويسرق لافتتها ليعلّقها على مدخل بيروت بدلاً من لافتة المدينة.
 
بهذا، يصبح المعنى صارخاً ومروّعاً: في هذه المدينة، الأموات هم الأحياء، والمجانين هم العقلاء. هذه الصورة المأساوية المُكثفة، تختصر السمان عبث الواقع اللبناني وسقوطه، كأنها تكتب نبوءة الفاجعة قبل وقوعها.
 
أهمية الرواية بعد خمسين عاماً
بعد مرور نصف قرن، تظل رواية «بيروت 75» ذات أهمية تتجاوز مجرد القيمة الأدبية أو التاريخية. القضايا التي تناولتها حول الصراع الطبقي والاستغلال لا تزال حاضرة في معظم المدن العربية، حيث تستغل الطبقة الثرية الفقراء، ويظل الفساد الأخلاقي حاضراً، بينما تتكسر أحلام الشباب الباحث عن حياة كريمة تحت وطأة الظروف القاسية.
 
في عصر الهجرات المستمرة، تتحوّل هذه الرواية إلى تحذير من الانخداع بأسطورة «المدينة الحلم»، فالمراكز الحضرية الكبرى قد تبدو واحات للثروة، لكنها غالباً آلات طحن للحالمين من الطبقات الفقيرة، حيث يُستنزف الإنسان ويُستبدل طموحه باليأس.
 
بعد خمسين عاماً، نقرأ الرواية ونحن نعرف ما حدث: حربٌ استمرّت خمسة عشر عاماً، خلّفت الآلاف من القتلى والجرحى ودماراً شاملاً. لكن الدرس الأهم يبقى: هل نملك اليوم القدرة على قراءة إشارات التحذير في حياتنا المعاصرة؟ وهل لدينا الوعي الكافي لتجنُّب كوارث مشابهة في المستقبل؟
 
بهذا المعنى، «بيروت 75» ليست مجرّد رواية عن الماضي، بل مرآة لزمننا الحاضر، وبوصلة تحذّر من مخاطر الآتي، وصرخة تدعو إلى الوعي والتغيير قبل فوات الأوان. هنا يتجلّى دور الأدب الحقيقي: أن يكون شاهداً على عصره، ومصباحاً ينير دروب المستقبل، حاملاً رسالة تتجاوز حدود الكلمات لتغدو تجربة إنسانية ودرساً للبشرية جمعاء.
 
 
المصدر: الأخبار