"بيروت كتب"... مهرجان وطني يُعيد للقراءة نبضها
جويل غسطين
الثلاثاء 21 تشرين الأول 2025
في قلب العاصمة اللبنانية، حيث اعتاد هواة الكتاب والقراءة على اختلاط رائحة الورق بصوت موج البحر وحيث تلتقي ذاكرة المدينة العريقة بحاضرها، تُطلّ نسخة جديدة من مهرجان "بيروت كتب - Beyrouth Livres"، كنافذةٍ مُشرعة على وعدٍ متجدّد بأنّ الثقافة في لبنان لا تموت مهما اشتدّت الأزمات. وبعد سنواتٍ من غياب "صالون الكتاب الفرنكوفوني" في العام 2018، بدأ مهرجان "بيروت كتب" الذي بلغ نسخته الثالثة، يحجز له مكانًا على الروزنامة الثقافيّة فيوقظ في النفوس شغف القراءة، ويمنح الكلمة حقّها في زمنٍ ضاق بالضجيج الإلكتروني والرقميّ الذي يفتقر في مواضع كثيرة إلى العمق والفائدة.
ينظّم "المركز الفرنسي في لبنان" هذا الحدث الثقافي بين 22 و26 تشرين الأوّل الجاري، في دورةٍ تمتدّ خارج حدود بيروت لتشمل الشمال والجنوب والبقاع والشوف. وهكذا يتحوّل المهرجان من فعاليةٍ مركزيّة في العاصمة، إلى احتفالٍ وطنيّ عام بالكتاب، يمدّ جسور المعرفة من الساحل إلى الجبل جاعلًا من الثقافة حقًا مشتركًا لكلّ اللبنانيين، لا حكرًا على فئةٍ أو مدينة.
رسالة تتجاوز حدود القراءة
منذ انطلاقه، لم يُرِد "بيروت كتب" أن يكون مجرّد معرضٍ تجاري للكتب، بل أن يكون مهرجانًا ثقافيًا يحتفي بالكتاب وفضاءً حيًّا يتجاوز فعل الشراء والبيع إلى إعادة الاعتبار لفعل القراءة نفسه. فالكتاب في خلال هذه الفعاليّة ليس سلعة، بل تجربة ولقاء، وحوارًا مفتوحًا بين الأدب والفنون، بين اللغة والموسيقى، بين الماضي والمستقبل. وفي أروقة المهرجان، تتنقل الروح بين ورش عمل تفاعلية وندوات فكرية، وعروضٍ فنية تدمج النصّ بالصوت والصورة، لتتحوّل القراءة إلى ممارسةٍ جماعيّة تُعيد الإنسان إلى ذاته وإلى الآخر في آنٍ معًا.
بهذا المعنى، يصبح المهرجان رسالة مقاومة ناعمة، تثبت أنّ الثقافة قادرة على جمع ما فرّقته الأزمات، وعلى إعادة الأمل في بلدٍ أتعبته الانقسامات. فحين تتراجع السياسة ويتعثر الاقتصاد، يبقى الأدب مساحةً آمنة يمكن من خلالها إعادة بناء الجسور وصوغ واقعٍ أكثر إنسانيّة.
من تجربةٍ ناشئة إلى حدثٍ وطني
انطلقت فكرة المهرجان عام 2021 كتجربة صغيرة متخصّصة في القصص المصوّرة، سعيًا إلى جذب الجمهور الشاب نحو عالم القراءة البصريّة. لكنّ النجاح الكبير الذي حققته النسخة الأولى فتح الأفق أمام توسّعٍ سريع، فتحوّلت في العام التالي (2022) إلى مهرجانٍ متكامل للأدب والفنون، استقطب أكثر من 23 ألف زائر منذ أيامه الأولى. ذلك الإقبال لم يكن رقمًا فحسب، بل دلالةً على تعطّش اللبنانيين للثقافة، وعلى رغبتهم في استعادة مساحات اللقاء الإنساني والأدبي.
برنامج يربط الشرق بالغرب
الدّورة الثالثة هذا العام تحمل شعلة التنوّع والانفتاح، حيث تستضيف أكثر من 80 كاتبًا وفنانًا من 10 دول مختلفة، من بينها لبنان وفرنسا وكندا والمغرب والجزائر وبلجيكا وسويسرا. وتُقام الفعاليّات والأنشطة في أكثر من 20 موقعًا ثقافيًا من "متحف بيروت" إلى كليمنصو، مرورًا بالجامعات والمدارس والفضاءات العامة.
اعتبارًا من يوم غد الأربعاء وحتى يوم الأحد، سوف تتحوّل بيروت ومعها مناطق عدّة، إلى خريطة ثقافية حيّة تتحرّك في كل الاتجاهات، تتقاطع فيها اللغات، وتلتقي فيها التجارب المختلفة في حوارٍ يثري الوعي ويجدّد المعنى.
يركّز البرنامج على المواهب الشابة من خلال ورش عمل تفاعليّة ولقاءات مع مؤلّفين عالميّين، في محاولة لتمكين الجيل الجديد من اكتشاف أسرار الكتابة والإبداع. فالمهرجان لا يحتفي فقط بالأسماء المعروفة، بل يفتح الباب أمام الأقلام الجديدة التي تكتب أدبًا ينبض بلغة الحاضر وجرأة المستقبل.
مرونة وانفتاح على الفنون
تقول مديرة "المركز الفرنسي في لبنان" سابين سيورتينو، إنّ ما يميّز "بيروت كتب" هو مرونته وتعدّديته الفنية. فهو لا يحتفي بالكلمة المكتوبة فقط، بل يحتضن الموسيقى والمسرح والسينما والفنون البصريّة، ليقيم حوارًا خلاقًّا بين أشكال التعبير الإبداعي. وتشرح لـ "نداء الوطن" أنّ كلّ لقاءٍ هنا يتحوّل إلى تجربةٍ فريدة تدمج بين الأدب والفن، بين الفكر والعاطفة، في تمازجٍ يعبّر عن جوهر بيروت نفسها: مدينة تنبض بالحياة رغم الجراح. كما أنّ المهرجان مجّاني بالكامل، ما يجعله حدثًا قريبًا من الناس بمختلف فئاتهم. ومن خلال استخدام المتاحف والجامعات والساحات العامة كمواقع للفعاليات، يذكّر المهرجان بأنّ الثقافة لا تحتاج دائمًا إلى جدران كي تزدهر، بل إلى قلوبٍ تؤمن بها.
وفي خطوةٍ تعزّز حضوره العالمي، يستضيف المهرجان هذا العام لجنة "جائزة ألبير لوندر الشهيرة"، في تأكيدٍ على التزام لبنان بحريّة التعبير ودعم الصحافة المسؤولة والكلمة الصادقة.
شراكات وتحدّيات
منذ النسخة الثانية لـ "بيروت كتب"، انضمّت "ESA Business School" إلى "المركز الفرنسي" كشريكٍ ومنتِجٍ مشترك للمهرجان، مستضيفة فعاليات عطلة نهاية الأسبوع الختامية في حرمها بكليمنصو. هذه الشراكة لا تقوم على الدعم اللوجستي فحسب، بل على رؤيةٍ مشتركة ترى في الثقافة جسرًا للمستقبل ووسيلةً لإعادة بناء ما تهدّم.
في المقابل، مثل كلّ مبادرة ثقافية في لبنان، لم يسلم "بيروت كتب" من التحدّيات. فخلال عام 2024 اضطرّ المنظّمون إلى إلغاء المهرجان بسبب الحرب، لكن الإصرار على الإستمرار حوّل الأزمة إلى فرصة، إذ أُطلق بعدها "موسم أدبي" امتدّ على أربعة أشهر عام 2025 عقب وقف إطلاق النار. كان ذلك بمثابة إعلانٍ رمزيّ أنّ الفعل الثقافي في لبنان لا يعرف الإستسلام، بل يبحث دائمًا عن طريقٍ جديد نحو الضوء.
منصّة للمواهب ودعم النشر
يقدّم المهرجان نفسه كمنصّةٍ مهنيّة تجمع الكُتّاب والناشرين والمترجمين وصنّاع المحتوى الثقافي، وتفتح حواراتٍ حول مستقبل النشر في زمن الرّقمنة. كما يشكّل مساحةً للتعلّم والإلهام للشباب، تزرع فيهم روح الابتكار وتمنحهم فرصة التواصل مع تجارب دولية رائدة. ويعزز انخراط لبنان في مبادرة "كتب من ضفتَين" التي يُشرف عليها "المركز الفرنسي" ووزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية، مكانة المهرجان كجسرٍ ثقافي يربط بين العالم العربي والفرنكوفوني، ويجعل من "بيروت كتب" أكثر من مجرّد تظاهرةٍ سنوية: إنّه مختبرٌ حيّ للحوار بين الثقافات، واحتفاءٌ مستمرٌّ بقوة الكلمة.
مدينة تقرأ رغم كل شيء
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى "بيروت كتب" إلا بوصفه مرآةً لروح المدينة نفسها: مدينة لا تستسلم، وتعرف كيف تنهض من الرماد لتكتب من جديد. ففي كل زاوية من أنشطة المهرجان وفعاليّاته، تتجلّى بيروت كما يعرفها عشّاقها: مدينةٌ تقرأ رغم الألم وتبتسم رغم التعب وتؤمن أن الثقافة ليست ترفًا بل حاجة للبقاء.
"بيروت كتب - Beyrouth Livres" ليس مجرّد مهرجان، بل هو وعدٌ بأنّ الكتاب سيبقى منارة هذا الوطن، وأن الحبر سيظلّ أقوى من الغبار، وأن بيروت، مهما تبدّلت الأيام ستستمرّ تكتب وتطبع وتنشر.
المصدر: نداء الوطن