أحداث ثقافية أخرى
الديفا العربيّة...عندما عرّفت نفسها بحصّتها من الفضاء العام
بتول يزبك
الإثنين 20 تشرين الأول 2025

كانت الاستعدادات جاريةً على قدمٍ وساقٍ لافتتاح المعرض، والحضور بقيافتهم الأنيقة ملأوا الباحة الفسيحة لمتحف سرسق المضاء بأضواءٍ بديعةٍ، والموسيقى الملائمة لثيمة الحدث صادحةٌ في الخلفيّة، وهناك أعلى هضبة الأشرفيّة، وبعيدًا من زحمة بيروت اليوميّة الّتي تكاد أن تفتك بمن تبقّى في هذه المدينة، كان العشرات من شتّى المشارب والخلفيّات بانتظار أنّ يروا تركة "الديفاز" من رصيدٍ فنّيٍّ، وأحمر الشّفاه، وفساتين السّهرة البديعة، والإكسسوارات، وآلات الموسيقى، وأقداح الويسكي وعلب السّجائر، وصورهنّ بالأبيض والأسود. كانوا بانتظار حقبةٍ برمّتها أن تندفع بكلّ عذوبتها وشقاوتها وشبقها وتقدّمها وشاعريّتها ونوستالجياها نحوهم، انتظارٌ نهمٌ لاختلاس النظر إلى حياة أولئك النسوة اللواتي أتحْن هذا القدر من الحضور في حياة الناس، حتّى بعد عشرات السنين.
 
واستهلّت الفعاليّة بكلماتٍ لكلٍّ من وزير الثقافة غسّان سلامة، الذي استقبله نائب رئيس الحكومة طارق متري وهو رئيس لجنة متحف سرسق، وكلمة رئيس "معهد العالم العربي" في باريس ووزير الثقافة الفرنسيّ السابق جاك لانغ.
 
إذًا، افتتح معرض "ديفا: من أمّ كلثوم إلى داليدا" الذي أقيم مساء أمس الجمعة 17 تشرين الأوّل الجاري، بنجاحٍ باهرٍ ضاهى، إلى حدٍّ ما، النجاح الذي لاقاه في باريس وأمستردام وعمان، وفق ما أشار عددٌ من الذين شاهدوه سابقًا. هذا المعرض خصّص لتكريم أشهر نجمات العالم العربيّ بين عشرينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، والاحتفاء ببصماتهنّ الفنّيّة والإرث المهول الذي تركْنه على السّاحة الفنّيّة والنسويّة أيضًا.
 
الديفا، نجمة، امرأة، نسويّة
 
في الطابق الثاني تحت الأرض، خصّصت صالة عرضٍ كبيرةٌ لإعداد المعرض، وتحت إنارةٍ خافتةٍ، وفي ما يشبه المتاهة الملوّنة بألوانٍ باردةٍ تتدرّج من البنفسجيّ الخزاميّ مرورًا بالأخضر القاتم، وصولًا إلى الأحمر القاني، وضعت حجراتٌ لمختلف الفنّانات اللواتي حضرْن في المعرض، لتبقى صور النجمات قلب الحدث ومركز الضوء والاهتمام. تنتظم المساحة، وقد بسطت على نحو 800 مترٍ مربّعٍ، في أربع حركاتٍ بصريّةٍ ومسموعةٍ، من القاهرة الكوزموبوليتية في عشرينيّات القرن الماضي حيث روّاد الحركة النسويّة وصالوناتها ومجلّاتها، إلى أصوات الأربعينيّات والستينيّات "أمّ كلثوم، وردة، أسمهان، فيروز"، ثمّ إلى "نيلوود" وبنات الفيلم الغنائيّ المصريّ، وصولًا إلى قراءاتٍ معاصرةٍ لفنّاني اليوم لتراث تلك الديفازات. هكذا تتجاور أغلفة "روز اليوسف" و"المرأة المصريّة" مع صورٍ وبورتريهاتٍ ومقتنياتٍ وحواراتٍ ومقاطع حفلاتٍ تستعاد في فضاءٍ مسرحيٍّ يلتقط نشوة الاستماع الجماعيّ، كلّه معروضٌ، فتنة منيرة المهديّة، أولى النساء اللواتي صعدْن إلى المسرح في مصر والوطن العربيّ، وسحر هند رستم وخفّة سامية جمال، وإغراء سعاد حسني، إلى رقّة فيروز، وأسرار أمّ كلثوم، إلى كاريزما صباح، والنضج العميق في عيني وردة وعذوبة أسمهان، وشباب داليدا الخالد.
 
 
يدخل الزائر معرض "ديفاز" في سرسق كما لو أنّه يعبر طبقاتٍ من ذاكرةٍ مكثّفةٍ، نساءٌ يصرْن أيقوناتٍ، وأغنيةٌ تتحوّل سجلًّا اجتماعيًّا، وصورةٌ تعيد تركيب تاريخٍ حديثٍ للمنطقة على إيقاع أصواتهنّ. المعرض، الذي أنجزه "معهد العالم العربيّ"، لا يكتفي بالاحتفاء بالشهيرات، بل يضع نجوميّتهنّ في سياقٍ أوسع، ولادة نسويّةٍ عربيّةٍ في مجتمعاتٍ أبويّةٍ، حضورهن كبيانٍ عامّ، وتكوّن مخيّلةٍ جماعيّةٍ فنّيّةٍ عابرةٍ للحدود، وصعود مشروعٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ عبّر عن نفسه عبر الأغنية والسينما والصورة.
 
 
من صالون "مي" إلى منصّة "الأولمبيا"
 
يذكّر القسم الافتتاحيّ بأنّ تحرّر الصوت سبقه تحرّر الفكرة،"مي زيادة" وصالونها، "هدى شعراوي" وسيزا نبراوي، التعليم والكتابة والتمثيل مساحاتٌ لإعادة تعريف حضور المرأة في الفضاء العام. على الجدار، تقرأ النسويّة العربيّة حركةً ثقافيّةً بقدر ما هي سياسيّةٌ، ويرى كيف مهّد هذا المزاج لظهور جيلٍ من سيّدات الأعمال والممثّلات والمنتجات والصحافيّات اللواتي رسّخْن أقدامهنّ في قطاعات التسجيل والإذاعة والسينما الناشئة.
 
 ثمّ يعلو "النّفس الطويل" مع كوكب الشرق، فلا تعرض أمّ كلثوم كأيقونةٍ معلّبةٍ بل كقوّةٍ مؤسّسةٍ غيّرت العرف الموسيقيّ، من تحويل "التخت" إلى أوركسترا، إلى ابتكار الأغنية الطويلة متعدّدة الأجزاء، إلى حفلاتٍ تمسك بالوقت والجمهور لساعات. تكمل الحكاية عن قربها من مشروع الناصريّة، وعن صورةٍ صنعتْها على المسرح، المنديل والنظّارات الداكنة والفساتين الموشّاة بخيوطٍ ذهبيّة. وفي الغرفة المجاورة، تعبر وردة الجزائريّة من "تام تام" الباريسيّ إلى القاهرة فبيروت فالجزائر المستقلّة، صوتٌ يزاوج المدرسة الكلثوميّة بحسٍّ مغاربيٍّ مبتكر، ونجوميّةٌ تتنقّل بين النضال السياسيّ وفنون السينما والحفل، قبل أن تعود في السبعينيّات لتثبّت مكانتها لدى كبار الملحّنين.
 
 
ثمّ تطلّ أسمهان، الأميرة الدرزيّة بصوتٍ يتأرجح بين "كونترا ألتو" دافئةٍ و"سوبرانو" دراميّةٍ، وسيرةٌ قصيرة العمر كثيفة الأحداث، راديو وسينما وجاسوسيّةٌ وحادثة غرقٍ ألهمت أساطير لا تنتهي، وحضورها هنا يضيء هشاشة النجوميّة وبهاءها في آن. أمّا بيروت فتعرف "ابنتها" فيروز على نحوٍ حميمٍ، من "إذاعة لبنان" إلى مسرح بعلبك، ومن الأوبريت اللبنانيّة الّتي صاغها الرّحبانيّان إلى جولاتٍ عربيّةٍ وعالميّةٍ رسّخت صورة بلدٍ جميلٍ وصلبٍ في آن..
 
 
المعرض يُقدّم جولة، بين أواخر الثلاثينيات وبدايات السبعينيات، حيث ارتقت مصر إلى مصاف أكبر منتجي الأفلام في العالم، وتحولت القاهرة إلى "هوليوود على ضفاف النيل". وبرزت "النجمة بوصفها نظامًا جماهيريًّا متكاملًا، الكوريغرافيا والملصق الفيلميّ والمجلّات المصوّرة كلّها صنعت نجوميّةً لامعة وذائقة بصرية موازية للصوت. فيما برزّت بيروت واجهةً لهويةٍ موسيقيّة حديثة قاومت الانقسام وبشّرت بوجه المدينة الثقافيّ رغم العواصف. هكذا تُستعاد بيروت هنا بوصفها مُضيفةً ومُنتِجةً في آن: مدينة تُصنع فيها الأساطير كما تُروى. المعرض يلتقط هذا الخيط كي يذكّر بأنّ بيروت، إلى جانب القاهرة، كانت ذات يومٍ عاصمةً للموسيقى العربية. وبيروت الّتي كانت لصيقة هؤلاء الفنانات بالمُجمل وحاضنتهن، قبل القاهرة أو بعدها..
 
 
وقد حرص متحف سرسق على أنّ يستحضر ذاكرته هو أيضًا داخل المعرض؛ فضمّ صورًا وتسجيلاتٍ نادرةً من مهرجانات بعلبك، ولقطاتٍ من أرشيف تلفزيون لبنان الرسميّ، إلى جانب مقتنياتٍ استُلّت من أرشيف بعض المخرجين. وقالت إيلودي بوفار، مسؤولةُ المعارض في "معهد العالم العربي" بباريس: "بذلْنا جهدًا كبيرًا ليَسافر هذا المعرض ويُقام في مدنٍ مختلفة، وقد فرضتْ بيروت نفسَها، بعد أمستردام وعُمان، محطةً طبيعيةً لا غنى عنها". ولا يتوقّف المعرض عند النوستالجيا، فأعمالٌ معاصرةٌ من كولاجاتٍ وتركيبات فيديو ولوحاتٍ تعيد النظر في الأرشيف وتفتحه على تأويلاتٍ جديدة، وشارك فنّانون فلسطينيّون في هذا الحوار البصريّ، فيما يمتدّ الأثر خارج القاعات عبر حفلاتٍ وندواتٍ وعروض أفلامٍ تستقرئ أثر الديفاز في مجتمعاتنا اليوم، إنّها محاولةٌ لإحياء تراثٍ موسيقيٍّ وأيقونوغرافيٍّ لا يزال يتشكّل كلّما أعيد الإصغاء إليه.
 
هذا الحضور الصّوريّ المكثّف والعذب أشاع في الجوّ العامّ حالةً من الرقّة الخالصة. والذي انتهى على حفلةٍ راقصة في الباحة الأماميّة على إيقاع أغاني هؤلاء النجمات.
 
بيروت: حاضنة ثقافيّة وغياب الشباب
 
المعرض عموميٌّ إلى حدٍّ يلامس يوميّات المشرقيّين والعرب، وثيقةٌ جماعيّةٌ تدوّن سيرة مدن وزمنٍ كاملٍ وتعيد تركيبهما، يتدفّق كفيضانٍ من مشاهد وموادّ، بأرشيفٍ راكضٍ واقتحاميٍّ يزيح الأغطية عن المخفيّ من البيت إلى الشارع، ومن الوجوه إلى الأجساد، لا يكتفي بالتوثيق بل يستنطق الصورة لتشارك في تأليف ذاكرةٍ مشتركةٍ لهؤلاء النسوة. ومع ذلك ينهض سؤال، أين الشباب، الغياب لافتٌ، كأنّ قلب المدينة معلّقٌ عن الخفقان حيث يجب أن يسمع الجيل الجديد نبضه..
 
 
في زاويةٍ مضيئةٍ، خيطٌ رفيعٌ يصل صالون "مي زيادة" بحسابات "إنستغرام" اليوم، كلاهما منصّةٌ لابتكار صورة الذات في الفضاء العام، هناك كانت الكلمة واللقاء، وهنا الفيديو القصير والـ"ستوري"، وفي الحالتين تتصارع المرأة على تمثيلها لمعناها. هذا الخيط هو جسر العبور للشباب والجيل القادم، أن ترى الديفا كمؤثّرةٍ مبكّرةٍ، سيّدة إدارة الصورة والصوت والجمهور، ومن أوائل من حوّلن الجسد والصوت إلى رأسمالٍ رمزيّ.. "ديفاز" رشيقٌ وضروريٌّ محكم البناء كريم الأرشيف، يمنح جرعةً عاليةً من الجمال، لكنّ بيروت المنزوعة القلب مؤقّتًا تحتاج أن يعود دمها إلى الدوران في شرايين صالاتها، وأن يدخل الشباب هذه الذاكرة لا كزوّار نوستالجيا بل كصانعين لطبعةٍ جديدةٍ منها، عندها فقط يستعيد المعرض قلب المدينة، ويعيد للمدينة قلبها.
 
 
المصدر: المدن