أحداث ثقافية أخرى
مسرحيّة "قبل آخر صفحة"... صراع الإبداع ومعوّقاته على الخشبة
جويل غسطين
الجمعة 17 تشرين الأول 2025

"قبل آخر صفحة" عنوان مسرحيّ جديد بدأت عروضه مساء أمس الخميس، يقدّم من خلاله الكاتب جورج درويش عملًا يفتح أمام المتفرّج بوابةً إلى العوالم الداخلية للكُتاب، في رحلةٍ عميقة إلى جوهر الإبداع وأزماته، بين شغف الكتابة وصعوبة إنجاز العمل الأدبي.
 
مسرحيّة من توقيع المخرج مازن سعد الدين، تضع المُشاهد أمام لحظات التوتر التي يعيشها الرّوائي حين يواجه فراغ الورقة البيضاء وصراعاته الدّاخلية.
 
يجسّد الدَّورَين الرئيسيَّين في العرض المسرحيّ، الممثل رالف س. معتوق بِدور "حلمي" الكاتب العاجز عن إنجاز روايته الرّابعة، والممثلة مي سحّاب التي تقدّم شخصيّة "شكبازوف" المؤثرة على "حلمي" مهنيًا وشخصيًا.
 
أجواء من التشويق والغموض تحوط بمسرحيّة "قبل آخر صفحة"، يُفضل كاتبها إبقاء تفاصيلها طيّ الكتمان حتى يستمتع الجمهور بالمُشاهدة، وتُبقي السؤال المحوريّ حاضرًا: هل سيتمكّن "حلمي" من تجاوز التحدّيات التي تعوق إكماله كتابة الرواية التي تمثل جزءًا من روحه؟ أم أن "شكبازوف" ستظلّ عقبة في طريق إبداعه؟
 
 
صراع مشاعر
 
يكشف الممثل رالف س. معتوق تفاصيل شخصيّة "حلمي" فيحملنا معه في رحلةٍ تتجاوز حدود النص المسرحي وتغوص في عمق التجربة الإنسانيّة. "حلمي" ليس مجرّد روائيّ يسعى إلى إنهاء روايته الرابعة، بل هو صورة عن إنسانٍ يعيش في صراعٍ دائم مع نفسه، تتقاذفه تناقضات لا تهدأ، وتلاحقه مشاعر متقلّبة.
 
في هذا السّياق، يصف معتوق في حديثه مع "نداء الوطن"، الشخصية التي يؤديها على المسرح بمزاجيّة الطّبع، حسّية الإنفعال، تحمل في دواخلها عاصفة من التناقضات، إذ تعيش حالاتٍ متعدّدة ومتنوّعة في آنٍ واحد، فلا يهدأ عقلها ولا يستقرّ قلبها. هو كائن معقّد يتنقل بين المشاعر والأفكار، لتنعكس هذه الصّراعات على مسار حياته الخاصة والمهنية.
 
عن تجربته مع زميلته مي سحّاب، يصف معتوق التعاون معها بالثمرة الناضجة التي أضافت للعمل عمقًا وحيويّة، قائلًا: "مي شخصيّة إيجابية بامتياز. أداؤها الإاحترافي يُظهر وكأنّ الدّور كُتب خصّيصًا لها". ويرى معتوق أنّ شخصية "شكبازوف" الّتي تجسّدها سحاب، انسجمت تمامًا مع قدراتها التمثيلية وحضورها الطاغي.
 
منعطف جديد
 
عن خصوصيّة هذه التجربة مقارنةً مع الأعمال السّابقة التي قدّمها معتوق، يعتبر الفنان الشاب أنّ "قبل آخر صفحة" تمثل منعطفًا جديدًا له في مساره الفني، فهي المرّة الأولى التي يترك فيها مهام الكتابة والإنتاج والإخراج جانبًا، ليكرّس نفسه للتمثيل فقط. ويعترف أنّ هذه الخطوة سمحت له بالغوص في الشخصية التي يؤديها بعمقٍ لم يختبره من قبل، إذ حرّرته من أعباء الإدارة الفنية وجعلته يركّز على الجوهر: التمثيل الخالص.
 
ويثني معتوق على التعاون مع المخرج مازن سعد الدين، الذي أدار العمل برؤية احترافية وإيجابية، مؤكّدًا أنّ التجربة معه كانت ممتعة وملهمة في آنٍ واحد.
 
بهذا المعنى، يظهر رالف س. معتوق في "قبل آخر صفحة" لا فقط كممثل يؤدّي دورًا، بل كفنانٍ يعيش التجربة بكل تفاصيلها، يواجه ذاته قبل أن يواجه جمهوره، ويكتب عبر أدائه سطورًا جديدة في مسيرته المسرحيّة.
 
وإذ لا يخفي حماسته للمستقبل، يكشف معتوق عن العمل حاليًّا على مشروع مسرحي جديد من كتابته وإخراجه، من المقرّر أن يبصر النور في العام المقبل، ليضيف من خلاله مدماكًا آخر على مسيرته الإبداعية التي تجمع بين شغف التمثيل ووهج الكتابة.
 
حضور طاغٍ
 
في "قبل آخر صفحة"، تطلّ الممثلة مي سحّاب بدورٍ مختلف، يحمل الكثير من التحدي والإثارة، حيث تجسّد شخصيّة "شكبازوف" التي وصفتها في حديثها مع "نداء الوطن" بالمرأة القوية، الماكرة، وذات الحضور الطاغي.
 
هذه الشخصية لا تكتفي بامتلاك العزيمة والإصرار، بل تتميّز بقدرتها الفائقة على استخدام الحيلة والدّهاء كوسيلةٍ لتحقيق أهدافها. هي امرأة تشتهر بالتلاعب والتفوّق، ما يجعلها قادرة على فرض نفسها بقوّة في الأحداث.
 
ومن خلال هذا الدَّور، تتحوّل "شكبازوف" إلى المحرّك الأساسي الذي يترك بصمة واضحة في مسار الروائي "حلمي"، فتؤثر في قراراته وتعيد رسم ملامح حياته بطرق لم يتوقعها.
 
انسجام مهني وشخصي
 
عن التعاون مع الفنان رالف معتوق، تقول سحّاب إنه تجربة مميّزة بكل المقاييس، إذ تربطها به علاقة احترام متبادل وتفاهم عميق، ما انعكس إيجابًا على أدائهما معًا فوق الخشبة. وتؤكد أنّ هذا الانسجام لم يقتصر على الجانب المهني فقط، بل شمل كذلك الجانب الشخصي، حيث تطوّرت بينهما علاقة صداقة قائمة على الثقة والدّعم.
 
تضيف سحّاب أنّ الأجواء الإيجابية والانسجام لم يقتصرا على تعاونها مع معتوق، بل شمل أيضًا باقي فريق العمل، بدءًا من الكاتب جورج درويش الذي قدّم نصًّا غنيًّا وعميقًا، وصولًا إلى المخرج مازن سعد الدين الذي قاد العمل برؤيةٍ إاحترافيّة وحسّ إبداعي، ما جعل التجربة متكاملة ومثمرة.
 
 
بين الحقيقة والخيال
 
بين عوالم الواقع وظلال الخيال، يقف المخرج مازن سعد الدين في كواليس مسرحيّة "قبل آخر صفحة"، حاملًا شغفًا بالإخراج لا يهدأ.
 
سعد الدين الذي اعتاد الإبحار في فضاءات الدّراما الثقيلة، وجد في هذا النص فتنةً خاصّة؛ إذ أسَرَته قدرته الفريدة على المزاوجة بين الصّدق والسّراب، وبين ما يعيشه المرء من صدمات وما تتركه من ندوبٍ عميقة تُعيد تشكيل شخصيّته ومصيره. مع ذلك، لم تكن الرّحلة خالية من التحديات. فالمخرج الذي يجد نفسه عادةً منجذبًا إلى الأعمال الدرامية المكثفة، وجد في هذه التجربة تحدّيًا مغايرًا؛ إذ تلوّن النص بروح الكوميديا أكثر ممّا تشبّع بالدراما.
 
محطة فارقة
 
من جهة أخرى، لا يتردّد سعد الدين في الاعتراف خلال حديثه مع "نداء الوطن" بأنّ هذه المغامرة المسرحية شكّلت له محطة فارقة، بل "نقلة نوعيّة" في مسيرته الإخراجية، إذ يصف العمل بأنه واحد من أجمل وأصدق ما قُدّم على خشبة المسرح في السنوات الأخيرة، معتبرًا أنّ "قبل آخر صفحة" تفتح أمام الجمهور نافذةً على الحياة نفسها؛ حياة لا تُروى بخطّ مستقيم، بل تتشكّل من مفارقات وتناقضات تذكّرنا أنّ المسرح لا يعكس الواقع فحسب، بل يمنحه بُعداً أعمق، يُلملم جراحه ويحوّلها إلى لحظة فن خالدة.
 
 
* مسرحيّة "قبل آخر صفحة"، على "مسرح بيريت" - "جامعة القديس يوسف"، طريق الشام. الساعة 8:30 مساءً.
 
 
 
المصدر: نداء الوطن